عندما خرج إدوار الخراط في الخمسينيات ب"ساعات الكبرياء" و"حيطان عالية" كنت مازلت ألهو بأماني علي طريق الفكر والفن. وقلقت قلقاً عميقاً يساوي ذلك القلق الذي كنا نصطدم به بحدة مع مغامرات طه حسين الفكرية، ومع بداية نشر ثلاثية نجيب محفوظ سنة 1957 ونحن في السنة الثانية في الجامعة، ومع كل حدث فكري وإبداعي حقيقي. ثم كان السبيل إليه بعد ذلك صعباً. في 1975، منذ أكثر من عشرين عاماً، مع الأستاذة الجليلة الدكتورة لطيفة الزيات وأنا، وهو في برنامج إذاعي، اشتبكنا حول "ما وراء الواقعية". وفي بيته أيضا طلب إلي متفضلا أن أقرأ "ترابها زعفران" منذ عشر سنوات وطلب العون مني وطلبت العون منه. كان السبيل إليه شائكا بالفعل. وكان سبيله إليّ. وعندما ضممت "إسكندريتي" إلي "ترابها زعفران" في الأيام الأخيرة لأعد قراءة عنه، سأتوخي الليلة أن تكون مداخلي شيئاً بين الاحتفال وبين شيء يسير جدا من جهامة الأكاديمية. فكرت في أمرين: فكرت في الطريق إلي قراءته ومزجت بين طرائق القراءة كما يعرفها خاصة النقاد وبين طريقتي أنا إلي قراءته. كيف يحكم القاريء المعيار إلي ما يقرأ؟ أو كيف يمهد طريقاً إلي ما يقرأ؟ أو كيف يقرأ القاريء؟ وجدت أمراً ربما يقلق بعض الأساتذة من روادنا، لا أقول ببضع سنوات بل لأن الأجيال في مصر تطرأ بسرعة بحيث أن محمود أمين العالم بيني وبينه سنوات قليلة يعد جيلاً، ويعد أستاذاً ورائداً لجيلي، الأجيال الثقافية تطرأ بسرعة وتيرة الحياة والتغير. قلت:كيف أقرأ النص الشامل في غير بنية ثقافية؟ دهشت من سؤالي لنفسي. نعم، لدينا النص الشامل، لدينا الدعوة الحقيقية. ولكن بالفعل هل كشفنا التخوم والحدود والصور والأعلام حول بنيتنا الثقافية؟ لكي أفلح في وضع هذا النص الشامل علي بنية ثقافية شاملة؟ سؤال مزعج. كلنا يعرف حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، ولطفي السيد، وطه حسين وغيرهم، فلو أننا سألنا أنفسنا عن بيان النهضة ، كيف نلتمسه، وأين؟سنجد الأمر أمشاجاً وأخلاطاً: فكرة جزئية في الحكم، لاتفصل الدين عن الدولة، عند علي عبدالرازق وإنما تقول بأن الإسلام ليس به نظام سياسي لكنه لم ينفصل عن السياسة هو طلب الحكم العادل لكنه لم يضع طرائق للحكم، والناس قالوا فصل الدين عن الدولة، وأثاروا هذه الغوغائية حول العلمانية. مثلا جزئيات أخري صغيرة نلتمسها عند العقاد وعند أحمد لطفي السيد. لكن ما هي البنية الثقافية التي لها حدود وملامح التي أستطيع أن أعلمها للطالب في الجامعة ليجتهد معي في وضع نص شامل علي أرضيتها؟ فشلت في الإجابة عن هذا السؤال. لماذا؟ لأنني أنا ذاتياً وأنا أتخصص في علم الأدب وأدرسه في الجامعة ووصلت فيه إلي مقعد الشيخ لم أستطع أن أضع نص إدوار الخراط علي بنية ثقافية حتي يومنا هذا. فكانت إجابتي هولاً من الهول، وكأن المزعج والمؤلم فيها هو عمل إدوار وقد انتهي منه، حتي الآن. وتداعت الأمور إلي هذه التعاسة التي نعيشها الآن: أن يسأل الشادي إلي الفكر والعلم "ما هويتنا؟". المصري صانع أول هوية في التاريخ يأتي عليه حين من الدهر يسأل فيه: "من أنا؟ ما هويتي؟" الذي حدث أن النزوع الرومانتيكي ينتقي الفرض، وأن الجموح الديكتاتوري يفرض الفرض. فضاعت البنية بالفعل. نحن أصحاب أول بنية ثقافية في التاريخ، تهدمت أعمدتها، بالنزوع الرومانتيكي الجامح وبالديكتاتورية الفادحة، فتهدمت أعمدة البنية. سأجتهد اجتهادي مع إدوار بعد قليل. لكن في هذا السياق، ونحن قد راكمنا بالفعل ذخيرة فريدة من الإبداعات الفنية في العصر الحديث، في التشكيل، وفي الأدب، وفي الشعر، وفي الفكر، هل حبطت أعمالنا بالفعل؟ لا. أقول إنه علي المستوي الفكري وأنا التمس أعمدة البنية، أجدها، بحكم احترافي، ألتمسها في برامج الأحزاب، في مقدمات الأساتذة، في بعض الكتب الفكرية والثقافية، وهي تتغيا غايات أربعا، ألتمسها من كل هذه، لا أجدها في بيان واحد ولا أجدها في كتاب واحد، ولكنها موجودة في الأفق الثقافي المصري: - تحرير الوطن. - تحديث المجتمع. - تعقيل الفكر. - توحيد الأمة. هي متناثرة في أغاني المغنين وشعر الشعراء وكتابة الكتّاب، لكن مصر لها غايات، مصيبة المصائب أنها تتعثر، بطرائق الإدارة السياسية، تتعثر. هي موجودة، البنية الثقافية موجودة في التاريخ، والمبادرة المصرية موجودة في التاريخ ولكنها محاصرة. الفكر وصل إلي هذا. الفكر الجمالي الذي دخلت به ومنه إلي طريق إدوار الخراط. هل بالفعل لم نستطع؟ أقول: نعم. لم نستطع. في الخمسينيات والستينيات المشكل مُشكل المفكر وليس مشكل المبدع. لأن المبدع له طرائقه المراوغة، له وسائله الجمالية الذكية والسرية والتحتية ليدخل إلي ما يريد، أما المفكر فيريد التمييز والتمايز والتحديد. وهنا لا مجال للتحديد مع المطلق. مع المطلق المهيمن، لا مجال للتحديد والتمييز. هي محنة المفكر وليست محنة المبدع. ولكن بعد هذا الامتحان العسير استطعنا بالفعل أن نصل في الجمالية إلي مقولات طيبة في خصوصية الظاهرة الفنية، في التطور والتقدم في الفن، في مفهوم الموازاة الرمزية، وصلنا إلي ما يسمي بالعناصر الذاتية والموضوعية في الموقف ثم ما يسمي بعناصر التشكيل. وهنا عندما وصل اجتهادنا إلي هذه الآفاق استطاع إدوار الخراط أن يتسلل. استطاع أن يتسلل عندما استطعنا - بالفعل - لا أن نصل إلي المراجعة وإنما إلي الاجتهاد الفكري المطرد والمنتظم اجتهاداً جمالياً مصرياً، عندما وصلنا إلي بعض المقولات في الجمالية الراهنة لدينا في الأكاديمية المصرية، في الجامعات المصرية، وفي الحياة النقدية الجادة، استطاع إدوار أن يتسلل إلينا علي مهل شديد. بالفعل. هنا استطاع أن يصل إلي قارئه الحق وهنا الأمر الثاني في الطريق إلي دراسته: أعني كيف يخلق هذا المبدع لغة. ومن عجب أن المسألة الأساسية هي مسألة اللغة. إنه يمزج بين مستويات من الفصحي ومن العامية كأنه بالفعل يشق طريق الفن الحقيقي، وهو طريق اللغة، اقتدار تشكيلي، وهو يشق هذا الطريق كأنه يريد أن يصل إلي مطلق اللغة، هو يتوسل بالعربية الصحيحة الفصيحة، كما لا يتوسل بها غيره من أقرانه، ولكنه يريد أن يخترمها إلي مطلق اللغة. هذه هي الطريق إلي دراسته. كيف يخلق لغة؟ لأن الخراط خالق لغة. وكيف يؤصل طرائق القص؟ من عجب أنه في العشرين سنة الأولي من هذا القرن حدث أمران: حدث أن دي سوسير فتح فتوحه في اللغة، فوصل بنا الموقف الراهن إلي ما يسمي "نحو الكتابة" أو "علم الكتابة". في نفس الفترة بالضبط وصل مارسيل بروست إلي القص الحديث. انتقل من استقرار ديستوفيسكي الواصف إلي الكتابة الخالقة. عندما سألني الصديق العزيز إدوار منذ عشر سنوات أن أقرأ بعض النصوص، وعندما قرأت بعض نصوص "ترابها زعفران" وجدت شيئا من الحس الملحمي المصري القديم وشيئاً كثيراً مما قيل من مسألة الجنس، وليست هي رواية الجنس، طبعاً - وجدت فيها ليالي جديدة من ألف ليلة إن هذه الصفحات تقرأ كأنها قصيدة من القصائد، كما وجدت حساً يمتليء بالحساسية بإزاء هذه الأسرة التي يصفها لنا. الحساسية القبطية. نعم، إنه حس يمتليء بالقبطية. والقبطية، لدي، هي المصرية. وكلما أوغل هو في القبطية سطعت مصريته. بالفعل ابن البلد. إن المخلص القراءة يمكن أن يصل فيها إلي هذا الحس الذي قد يثير بعض الصعوبات. إذن بعد مارسيل بروست في إرسائه للحداثة، وبعد دي سوسير، بدأ عالم مختلف جداً غير العالم المستقر الذي صنعه إبراهيم الكاتب، والعقاد وغيرهما، هذا العالم الفذ الفريد؛ لكن هناك عالماً جديداً غير ذلك العالم، فيه وحدة المعرفة وفيه وحدة الفنون، وفيه وحدة - أو تآزر - الأنواع الأدبية، دخول الشعر علي القص، دخول الدراما، دخول "أنا" علي "أنت" علي "هو"، . القسمة التي بدت بذرتها عند أرسطو، وتنظيرها عند ت.س. إليوت، كل هذه المسائل دخلت. لماذا؟ لأن العالم نفسه قد أصبح هكذا. هذا فكر يوجز ويحلل ويقرأ ما يجري في العالم، بالفعل. العالم قد وصل إلي منتهي الكبر، حيث الأفلاك والمجرات، وإلي منتهي الصغر، في الذرة، وإلي ما بينهما. انعكس ذلك علي العلوم، وأصبح من المضحك الآن أن نقول علم البيولوجيا أو علم الجيولوجيا أو غير ذلك، هي علوم مستقلة، هذا صحيح ولكنها لا تعمل وحدها وإنما تعمل في منظومة، وهي لا تعمل في منظومة بعيدة عن منظومة الفنون، والأنواع الأدبية أيضاً، لا تعمل بعيداً عن هذه المنظومة، وهكذا. إذن، عالم جديد، وفن جديد، ومعرفة جديدة، وكتابة جديدة، بالضرورة. هذه الكتابة الجديدة تتنكب طريق الحتمي، النهائي. المطلق. أي تتنكب هذا الطريق لتلتمس لنفسها طريقاً آخر هو طريق الحداثة. هذه الكتابة الجديدة - نجد تجلياتها المبكرة عند إدوار الخراط، وليس وحده، ولكنه أحد الرواد المعدودين ، وربما هو رائد ورأس تيار في هذه المدرسة. لن نلتمس في هذه الكتابة الجديدة الشخصية النهائية التي نقف عندها ونقول "السيد أحمد عبدالجواد" أو "سارة" أو غيرها، سنجد الشخصية الروائية التي تخلق الزمان والمكان كل مرة، وكل مرة تدخل فيها المكان نخلق المكان، وسنجد الشخصية التي يخلقها المكان في كل مرة أيضا، وإذن فعمل إدوار الروائي والقصصي يزلزل المستقر في الرواية والقصة وينتقل بهما إلي آفاق الخلق.