السيدة انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري والأمتين العربية والإسلامية بحلول عيد الأضحى المبارك    جبران يستعرض جهود مصر في تعزيز بيئة العمل مع وفد "أصحاب الأعمال" بجنيف    محافظ القاهرة: إقبال كبير على المجازر الحكومية في أول أيام عيد الأضحى    أسعار الفاكهة في سوق العبور بأول أيام عيد الأضحي المبارك 2025    إقبال كبير على مجزر البساتين لذبح الأضاحى مجانا فى أول أيام العيد    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    زيلينسكي يطالب الغرب بالضغط على روسيا    أول أيام عيد الأضحي، الاحتلال يقصف عشرات المنازل بالضفة الغربية    أوكرانيا تتعرض لهجوم بالصواريخ والمسيرات أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص    قاض يوقف "مؤقتًا" حظر ترامب التحاق الطلاب الأجانب بجامعة هارفارد    "توقعت وقلت لشيكابالا".. حارس الزمالك يفجر مفاجأة بشأن مشاركته في اللحظات الصعبة    مدرب الأرجنتين يتحدث عن الفوز الصعب أمام تشيلي بتصفيات المونديال    الونش: الزمالك قادر على تحقيق بطولات بأي عناصر موجودة في الملعب    159 مركز شباب استقبلت الآلاف لأداء صلاة عيد الاضحى بالغربية    ملايين الحجاج يتوجهون إلى منى لأداء طقوس رمي الجمرات في يوم النحر    لمنع الاستغلال على شواطئ الإسكندرية.. الخطوط الساخنة لحماية المصطافين خلال عيد الأضحى    قطار يدهس شخصين في أسيوط أول أيام عيد الأضحى    فتح باب التقدم لجوائز اليونسكو الدولية لمحو الأمية لعام 2025    «هيجيلي موجوع».. نانسي نور تغني لزوجها تامر عاشور على الهواء (فيديو)    السيدة انتصار السيسى تهنئ الأمتين العربية والإسلامية بعيد الأضحى    في ذكرى رحيله.. محمود المليجي مسيرة فنية بين أدوار الشر وقلوب محبيه    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى التأمين الصحي عقب صلاة عيد الأضحى    طريقة عمل الفتة المصرية بالخل والثوم بمذاق لا يقاوم    جامعة القناة تعلن خطة التأمين الطبي بالمستشفيات الجامعية خلال عيد الأضحى    حماس: مستعدون لمفاوضات جدية وهادفة لوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة    "إكسترا نيوز" ترصد مظاهر احتفالات المواطنين بعيد الأضحى في مصر الجديدة    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 6 يونيو 2025 وفي جميع البنوك اول ايام العيد    محافظ الجيزة يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بساحة مسجد مصطفى محمود    محافظ جنوب سيناء يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد المصطفى بشرم الشيخ    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد ناصر الكبير    وفاة الملحن الشاب محمد كرارة (موعد ومكان الجنازة)    محافظ شمال سيناء يؤدي صلاه العيد في مسجد الشباب بالشيخ زويد    وسط أجواء احتفالية.. الآلاف يؤدون صلاة العيد في الإسكندرية    العيد تحول لحزن.. مصرع شقيقان وإصابة والدتهما فى حادث تصادم بقنا    وزير الدفاع الإسرائيلي: لن يكون هناك هدوء في بيروت ولا استقرار في لبنان وسنواصل العمل بقوة كبيرة    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 6 - 6 - 2025 والقنوات الناقلة    محافظ القليوبية يوزع الورود على الزائرين بمنطقة الكورنيش ببنها    محافظ القليوبية يقدم التهنئة للمسنين ويقدم لهم الهدايا والورود - صور    فرحة العيد تملأ مسجد عمرو بن العاص.. تكبيرات وبهجة فى قلب القاهرة التاريخية    الرئيس السيسي يغادر مسجد مصر بالعاصمة بعد أداء صلاة عيد الأضحى المبارك    خطيب عيد الأضحى من مسجد مصر الكبير: حب الوطن من أعظم مقاصد الإيمان    محافظ البحر الأحمر يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك بمسجد عبد المنعم رياض بالغردقة.. صور    الله أكبر كبيرًا.. أهالي جنوب الجيزة يصدحون بالتكبيرات من مركز شباب الجُملة| فيديو وصور    فى أحضان الفراعنة ..آلاف المواطنين يؤدون صلاة العيد بساحة أبو الحجاج الأقصري    متحدث الأمين العام للأمم المتحدة: نحتاج إلى المحاسبة على كل الجرائم التي ارتكبت في غزة    حسن الرداد: هذا العيد مختلف بوجود مولودتي فادية.. سميتها على اسم والدتي الراحلة    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك للرجال والنساء في العيد (تعرف عليها)    عيدالاضحى 2025 الآن.. الموعد الرسمي لصلاة العيد الكبير في جميع المحافظات (الساعة كام)    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    الأوقاف: صلاة الرجال بجوار النساء في صف واحد مخالفة صريحة للضوابط الشرعية    طرح البرومو الرسمي لفيلم the seven dogs    مسجد نمرة.. مشعر ديني تُقام فيه الصلاة مرة واحدة في العالم    كيفية صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 في البيت وعدد التكبيرات في كل ركعة    محافظ سوهاج يتفقد الحدائق العامة والمتنزهات استعدادًا لعيد الأضحى    رسميا.. نهاية عقد زيزو مع الزمالك    خطوات عمل باديكير منزلي لتحصلي على قدمين جميلتين في عيد الأضحى    صبحي يكشف سبب حزنه وقت الخروج وحقيقة سوء علاقته مع عواد    في وقفة العيد.. «جميعه» يفاجئ العاملين بمستشفى القنايات ويحيل 3 للتحقيق (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقر القيادة
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 11 - 2015

لحظات قليلة هي ما تحدد سنواتك القادمة، ما تبقي من حياتك، بعض من الكلمات هي ما قد تبقيك علي حالك أو تدفعك إلي فوهة الجنون، وهناك عندما تصل إلي النقطة التي لا يمكن أن تعود منها، سوف تتبدل حياتك بأخري لا تعلم عنها شيئاً، لم تكن تراود أحلامك، والآن ما عليك سوي التعايش معها حتي تحظي بلحظات الخلاص.
وصلت في المساء إلي العراق، تحديداً ولاية الموصل هناك، كانت الحياة هادئة، لا شيء يدل أننا علي مقربة من عرش الشيطان، فوهة الجحيم في هذا العالم، السيارات تسير كالمعتاد، لا ينتاب سائقيها نوبات الذعر، المحال لم تغلق أبوابها الصاجية في وجه روادها، بل استقبلت دفعات منهم، وكأننا في أحد المواسم التي يقبل فيها الناس علي الشراء، الطرق نظيفة ومازالت علي حالها، لم تصب بالتشقق ولا يتوسطها إحدي الحفر الكبيرة التي يتصاعد منها الدخان، لم تلق الجثث في الطرقات أو يختبيء أحدهم خلف جدار ممسكا ببندقيته وإنما كل شيء يسير طبيعياً.
وصلنا إلي قلب المدينة التي مازالت محتفظة ببعض من بريقها وجمالها، دخلت برفقة من يصحبني إلي إحدي البنايات، طرقت الباب عدة مرات فاستجاب من بالداخل دون أن يسأل عن هويتنا، لم ينتظر بأن نخبره كلمة سرية متفقاً عليها أو مصطلحاً غليظاً من ذلك الذي يستخدمونه في الحروب.
استقبلنا شاب في منتصف العمر، مازالت الابتسامة تعرف الطريق إليه، غمرنا بكلمات الترحيب، ثم أجلسنا في الصالة الخارجية.
قدمني الرجل الذي جاء بصحبتي إلي هذا الشاب الذي يدعي "أبو إسلام"، ثم هّم بالانصراف، توقف أبو إسلام أمام نظراتي الزائغة، قبل أن يدعوني إلي غرفتي الجديدة، أخبرني أننا سنتشاركها معاً، جذبت حقيبتي التي كانت علي مقربة مني ونهضت، أشعلت الأنوار، درت ببصري فوجدتها نظيفة، مرتبة، تنبعث منها رائحة البخور، طليت حوائطها بالأبيض، يتصدرها سريران صغيران وعلي جانب منهما دولاب خشبي صغير ذو ضلفتين، علقت علي الجهة اليمني منه ورقة خط عليها اسم أبو إسلام أما الجهة الأخري فكانت فارغة.
وقفت بمحاذاة الدولاب، أفرغ محتويات حقيبتي وأرصها بإتقان، لم تربكني نظراته التي تراقبني، بل جذبت منشفتي وبعض الملابس وطلبت منه أن يرشدني إلي "الحمام"، حصلت علي"دش" بارد، خرجت إلي الصالة فوجدته قد وضع الطعام، دعاني فلم أقدر علي الرفض، فكنت أشعر بالغثيان من شدة الجوع، تناولت الدجاج والأرز ونوعا آخر لم أستطع تمييزه، بعد أن انتهيت سألني:
- ما رأيك في الطعام؟
- رائع.
- أنا من أعددته.
اندهشت لهذا الأمر، فقد اعتقدت أننا في معسكر ويتم توزيع الطعام علينا، ولكن يبدو أن الحياة هنا غير تلك التي قرأت عنها.
قلت:
- ولكني كنت .....
قاطعني بعد أن اكتسي وجهه بابتسامة إضاءته:
- الحياة هنا ليست كالتي يصورها الإعلام، فنحن بجانب إيماننا بهذه الفكرة التي يقام عليها التنظيم، نعمل ونتقاضي الأجر علي هذا، ولك حق التصرف في أجرك هذا.
- وكيف الحياة هنا؟
- كالتي في أي بلد آخر، يمكنك التسوق، ممارسة الرياضة، الاحتفال، كل شيء، عدا ما يغضب الله.
صمت قليلا وقال بسرعة كأنما جاء إلي خاطره شيء كاد ينساه:
- هل أديت فروضك اليوم؟
- نعم فقد توقفنا في الطريق عدة مرات للصلاة.
- إذن فلنخلد إلي النوم حتي تستريح من عناء السفر، ولا تتعجل الإجابات، فغداً ستعلم كل شيء.
أومأت برأسي ثم سرت إلي غرفتي، وقد اطمأن قلبي بعض الشيء لما رأيته حتي الآن، استيقظت عند الفجر علي صوت أبو إسلام ودفعاته المتتالية لجسدي، توضأت ووقفت خلفه بعينين مازالت لم تخل بعد من آثار النوم.
بعد فراغنا من التضرع إلي الله، طلب مني أن أرتدي ملابسي حتي أخضع لدورة تدريبية في عملي الجديد.
كانت الشمس لم ترسل أنوارها بعد، بل كانت الأنفاس الأخيرة من الليل تلفظ، فتاهت المدينة بين ظلمة تأبي الرحيل ونهار يشحذ قواه حتي يفرض نفسه سيداً علي الأرض.
سرنا إلي أطراف المدينة، دلفنا إلي ساحة كبيرة ذات أبواب حديدية عملاقة، يبدو أنها كانت مركزا للجيش العراقي في السابق، دونّا اسمينا في كشف كبير، لم نتوقف كثيراً أمام هؤلاء الذين يؤدون التمارين الصباحية بالملابس البيضاء بل صعدنا إلي الطابق الثاني، قاعة كبيرة تراصت في صدرها عدد من المقاعد من تلك التي يستخدمها الطلاب في الجامعات.
جلسنا في المنتصف في انتظار قدوم أحدهم، بعد دقائق أتي العديد فرادي وجماعات، ألقوا بالتحية، لم يهتم أحد بوجودي، لم يبادر أحد بسؤالي عن هويتي، دقائق أخري سارت رتيبة، جاء رجل في العقد الرابع من عمره، بدا الوقار علي وجهه، ارتدي ملابس عصرية متناسقة، عكس هؤلاء الذين يجلسون حولي، الذين تنوعت ملابسهم ما بين الجلباب والملابس الحديثة.
جلس الرجل علي مقعده في هدوء، أخرج أدواته ووضعها برفق علي الطاولة أمامه، رفع رقبته إلي الأعلي، أرسل أصابعه لتحك جلده المختبيء تحت شعر ذقنه الكثيف بلونه الأبيض والأصفر، يأس من جذب انتباه الجالسين له، قرب الميكرفون منه وبدأ حديثه:
- ب بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم صمت، التفت الجميع إليه، عدلوا من جلستهم، عاد الرجل وعرف عن نفسه.
قال:
- بسم الله الرحمن الرحيم.
تمتم بصوت مسموع لا أعلم أن كان يردد بعض الآيات أم أنها جمل افتتاحية اعتاد عليها، بعد أن انتهي.
قال:
- أخوكم في الله عبدالله المغربي، اليوم سوف نتحدث بمشيئة الله تعالي عن الإعلام وضرورته الملحة علي الخلافة الإسلامية.
قبل أن يسترسل في حديثه قاطعه صوت جهور آت من الخلف.
قال :
- أليست هذه الآلات التي نستخدمها في الإعلام حرمها الإسلام لأنها تلهي عن ذكر الله؟
جذب المغربي نفسا عميقا، ثم قال من بين أسنانه موجها حديثه لهذا الشاب:
- هي حرام إذا ما استخدمناها فيما يلهي عن ذكر الله، ولكن هذه الحالة نسخرها لخدمة الخلافة ومن ثم خدمة الأمة الإسلامية والإسلام في كافة بقاع الأرض.
صمت المغربي للحظات ثم قال بصوت هادئ:
- لا أريد أن يقاطعني أحد، حتي يلهمني الله ويوفقني في توصيل رسالتي، لا تتعجلوا الأمر، الإجابات سوف تأتي تباعاً.
بدأ المغربي في شرح أهمية الإعلام وتأثيره الإيجابي علي نشر الدعوة، لم يكن الأمر به تحديد أو تخصيص، بل أشبه بالمعلومات العامة وسرد عام لأعلام الخلافة كما يسمونها، بعد ما يقرب من ثلاث ساعات انتهي.
رمقنا بابتسامة عريضة ولملم أشياءه ورحل.
سرت همهمات في القاعة بعد رحيله، وصل الأمر إلي حد المرج، علا الصوت حتي إنه جذب شيخا كبيرا يبدو أنه يشغل أحد المكاتب الملاصقة للقاعة، طرق القوائم الخشبية التي تزينت بها الحوائط بعنف، صمت الجميع، لم يقل شيئا بل ظلت نظراته الغاضبة تتفرس وجوهنا وكأنه يحاول حفظ ملامحنا وتسجيلها في ذاكرته.
انصرف بعد دقائق، نهضت من مقعدي، سرت بعض الخطوات إلي الشباك في آخر القاعة، تابعت بشغف الحركات القتالية التي يمارسها الجمع الكبير، في مهارة وعنف، أتي أحدهم إلي القاعة.
شاب نحيف غزا الشعر وجهه ولم يظهر منه سوي عينين عميقتين سوداوين وكأنهما الليل، تحرك بسرعة كبيرة، أفلت كومة الورق الأبيض من يديه علي الطاولة، لم ينتظر أن نعدل من وضع أجسادنا أو نحصل علي الوقت لننتبه إليه، وإنما قال بلهجة سريعة:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لم ينتظر أن نرد تحيته، بل أكمل:
- هذا اختبار باللغتين العربية والإنجليزية، ونتيجة هذا الاختبار سوف تحدد مواقعكم في الهيئة الإعلامية بإذن الله تعالي.
لم ينتظر ليري وقع هذه الكلمات علينا، تحرك سريعاً وألقي أمامنا مجموعة من الأوراق، دارت حول الإعلام، مواقع التواصل الاجتماعي والبرمجيات.
أجبت ما استطعت، اقتبست الكثير من حديث هذا الذي يدعي المغربي، الورقة التي خطت باللغة الإنجليزية كانت في حقيقة الأمر بمثابة اختبار لغة ليس أكثر، الأسئلة فيها كانت عامة فضفاضة، القليل يفي بالغرض فيها.
انتهي الوقت المخصص، جمعت الأوراق، تحرك الجميع للخارج، انضممت وأبو إسلام إلي الركب، سألته إن كنا سنعود إلي البناية الآن، أخبرني أنه علي إجراء مقابلة مع أحدهم، لم يخبرني بالمزيد، بل انحرف بي إلي غرفة كبيرة في نهاية البهو المظلم، طرق الباب ثم أدار المقبض ودلف إلي الداخل.
جذبه خلفه.
عاد بعد لحظات، قال:
- سأكون بانتظارك هنا.
اومأت برأسي، اندفعت إلي الداخل، ألقيت بتحية الإسلام، فردها من يجلس خلف المكتب العريض، دعاني للجلوس، تشاغل في توقيع بعض الأوراق.
بعدها عاد إليّ بابتسامة تأبي الخروج، قال:
- مرحبا بك في الخلافة الإسلامية.
لم أعرف بما أرد علي هذه الكلمات، لم تشغله كثيرا حالة التلعثم التي تعتريني، أخفض صوت القرآن الكريم الذي ينبثق من الحاسوب أمامه وقال:
- هل شاركت في العمل السياسي من قبل؟
- لا.
بدت علي وجهه الدهشة، نظر إلي الأوراق أمامه، قال:
- يذكر هنا أنه تم سجنك في مصر.
- نعم، لقد ألقي القبض عليّ عن طريق الخطأ.
- ولكن لماذا لم تش بأصدقائك حتي تنجو من الحبس التأديبي.
- لا أذكر إن كانوا قد تفاوضوا معي علي ذلك، فما كنت أسعي إليه ويشغلني هو أن أجد طريقة مناسبة للموت.
- هل تريد الموت؟
- نعم.
غمرت وجهه ابتسامة كبيرة وكأنما ظفر بنصر كان في انتظاره، قال:
- ستنول الشهادة، ولن تذهب حياتك هباء، بل سيكون لوقع استشهادك أثر كبير في إعلاء كلمة الإسلام.
قلت باندهاش وابتسامة باهتة تعتري وجهي:
- كيف؟
- سوف تنضم إلي قسم الاستشهاديين ليتم تجهيزك لتفجير نفسك في أعداء الله.
- أخشي ألا تطاوعني نفسي، كما أن موتي سوف يحزن والدتي وشقيقتي كثيراً.
تغيرت ملامح وجهه بعض الشيء وعاد بجسده إلي الخلف، قال:
- لماذا انضممت إلي الخلافة؟
- لأن صديقي أسامة أقنعني بذلك، أخبرني أنه يمكنني العمل والحصول علي راتب جيد، يغني من أعولهم علي تحمل مشقة الحياة.
- إذن أنت غير مؤمن بأفكار الدولة الإسلامية.
- لم أعرف منها شيئاً حتي الآن.
قبل أن يتحدث مرة أخري، عدت وقلت:
- سأبذل قصاري جهدي، حتي أعمل علي إعلاء كلمة الحق والدين الإسلامي.
قال وقد اكتسبت لهجته بعض الجدية:
- هل عملت في إحدي الصحف في مصر؟
- لا.
- هل لك علاقات بصحفيين مصريين أو أجانب؟
ترددت بعض الشيء، فقد أتت في مخيلتي سيرين، ولكني أجبت بالنفي فلم أرد توريطها في الأمر، فربما انضمامي إليهم قد يؤثر سلبا علي عملها في أمريكا.
عاد وقال:
- يجب أن تعلم أنك مراقب علي مدار الساعة وجزاء من يخوننا القتل.
أومأت برأسي في خوف ظاهر.
أذن لي بالانصراف، تنفست مطولا عند خروجي، قابلت أبو إسلام الذي كان في انتظاري آخر الرواق.
أخبرني في طريق عودتنا أن هذا هو قسم الأمن الداخلي للدولة الإسلامية ومهمته مراقبة الأعضاء حتي يضمن عدم وجود أي اختراقات في الهيكل التنظيمي، أخبرني أيضا أن من أجري معي المقابلة هو أحد ضباط المخابرات السابقين في الجيش العراقي.
وصلنا إلي المنزل الذي نقيم فيه عند العصر، أدينا الصلاة ثم اقترضت بعض المال من أبو إسلام، ذهبنا لشراء ما يستلزمه يومنا من الطعام، بعد عودتنا قمنا بتحضير طعام الغداء، أدينا صلاة المغرب ثم العشاء.
أعطاني بعض المجلدات في الفقه والحديث، حاولت قراءة بعض سطورها ولكنني توقفت بعد لحظات، فقد كانت ثقيلة لا يمكنني فهمها بيسر.
استلقيت علي فراشي، رحت أقلب أفكاري، جاءتني صورة والدتي والدموع تكسو وجهها، أغمضت عيني وفتحتها من جديد فرأيت عم حنا، تري ماذا فعلوا به، هل مازال يذكرني، أحمد هل عاد إلي مصر أم أنه مازال يكافح من أجل لقمة عيشه في ليبيا، أسامة أين هو، أخبرني أنه سيعود بعد شهر إلي هنا، تري ماذا سيكون مصيري، هل سأخرج من هنا، أم أن حياتي ستضيع هباء.
تذكرت أيضا كيف أتيت إلي هنا.
عندما وصلت إلي الشاطيء، فقدت وعيي من شدة الإعياء، استطاع أحمد وبعض ممن نجو أن يحملوني إلي الغرفة التي استأجرتها في اليوم السابق، وهناك لا أذكر كم استغرقت حتي استرددت عافيتي، لم تكن حالة الإعياء فقط هي ما جعلتني أرفض الواقع، لكن رؤية أحدهم وهو يرحل أمام عيني هو ما جعلني أبدو بائسا إلي هذا الحد، أن يحاول إنقاذي ويخبرني في كلمات قليلة أنه يشتم رائحة الموت، ثم يموت بعد دقائق، هذا يدعو للجنون، أن أفقد ما تبقي من تعقل لدي، أن أسمع كلماته تتردد داخلي كلما أعود إلي الواقع البائس، جعلني مشتت، أفكر دوما ماذا لو كنت أنا بديلا له، لماذا دفع حياثه ثمن لأحلامه؟
أذكر أنني ظللت قرابة الثلاثة أشهر التالية لم تفارقني صورته، لم أسمع سوي كلماته داخلي، دموع حبيبته ريهام الصامتة، كلماتها، دعتني للجنون، ظن كثيرون ومنهم أحمد أني فقدت عقلي، لم يتفهم حالتي هذه سوي عم حنا عندما أتي إلي سرت، من أجلي فقط، تركت العمل في الساحة التي لم أجد سواها أمامي، صرت أتبعه كظله، في العمل، المقهي، حتي النوم، تشاركنا غرفة واحدة، عاملني كابن له.
إلي أن جاءت هذه اللحظة التي غيرت حياتي، في يوم، الأمطار تساقطت فيه بغزارة، لم نخرج إلي أعمالنا من شدة السقيع، سمعت صوت جلبة في الباحة الخارجية "الحوش"، فدائما ما يقيم المصريون مجتمعين في أحواش كبيرة، أوربت الباب حتي أتطلع لما يجري، لكن أحدهم دفع الباب بباطن قدمه فالتصق بوجهي، انبطحت أرضاً، انبثقت الدماء من أنفي، نهض عم حنا علي عجل، جلب لي قطعة من القماش حتي أوقف هذا النزيف، الملثم أشهر سلاحه الآلي في وجهينا، أجبرنا علي الخروج إلي الساحة وهناك كان الجميع حاضرين "المصريون"، جثونا علي ركبتينا، رفعنا أيدينا إلي الأعلي، دار أحدهم نحونا، يبدو أنه القائد أو الزعيم هنا، توقف عندي، تفرس وجهي، لم أبال في بادئ الأمر، فكنت أعتقد أنه ينظر إلي الدماء التي سالت علي وجهي، ولكني عندما رأيت عينيه أيقنت أني أعرف صاحبها، ظل يدور ومازالت نظراته تراقبني إلي أن أقترب مني وقال بحدة:
- ما اسمك؟
قلت بصوت مرتعش:
- يحيي محفوظ.
يبدو أن كلماتي لم تصل إلي مسامعه، فاقترب أكثر بعد أن أشار بيده حتي أكرر، وقال:
- من؟
حاولت التغلب علي مخاوفي وهذا الصقيع الذي لا يقيني منه سوي ملابس النوم، رفعت صوتي قدر المستطاع. وقلت:
- يحيي محفوظ هنداوي.
لمعت عيناه بعض الشيء وبدا مذهولا، عاد برأسه إلي الوراء وجذبني برفق إلي جانب من الساحة وقال بصوت حاد:
- ماذا أتي بك إلي هنا؟
حاولت تتبع نبرات الصوت والتفرس أكثر في عينيه، فأنا أعرف هذا الصوت الجهوري، لم أجبه، كشف عن وجهه، عدت للخلف وقلت بصوت مذهول:
- أسامة؟
قال في هدوء:
- نعم.
- ماذا تفعل هنا، ولم تحمل السلاح، وماذا فعلنا حتي تخرجنا في هذا الصقيع؟
- لقد انضممت إلي تنظيم الدولة الإسلامية.
- داعش؟
كنت قد سمعت من قبل بعض الروايات عن هذا التنظيم هنا في ليبيا، لكني لم أهتم للأمر كثيراً.
رد وقال ببعض الحكمة:
- تدعي الدولة الإسلامية وليس داعش، هي دولة وليست حركة جهادية، ستكون خلافة للمسلمين أجمع.
- وماذا فعلنا حتي تقبضوا علينا، هل وقفنا في وجه امتداد دولتكم؟
- معكم مسيحيون من أعداء الله وسوف نقبض عليهم حتي نخلص العالم من شرورهم.
- من تقصد؟
- المسيحيون المصريون.
- هم لم يفعلوا شيئاً، بل جاءوا إلي هنا هربا من جحيم مصر مثلك ومثلي.
أدار وجهه الناحية الأخري فربما لم يكن يريد التجادل أكثر من ذلك.
عاد وقال:
- الوقت يداهمنا، لابد أن تأتي معي.
- إلي أين؟
- الانضمام إلي الدولة.
أطلقت بعض الضحكات، علا صوتي رغما عني، وضعت يدي علي فمي حتي أتمالك نفسي أمام نظراته الغاضبة. وقلت:
- لماذا أفعل بأمر كهذا؟
- لأنني لو تركتك الآن سوف تسجن ما تبقي من حياتك.
- لماذا؟
- لأنك تحدثت إلي أحد أعضاء الدولة الإسلامية.
- لا تنشغل بأمري، لديك ما تقلق لأجله.
عدت إلي مكاني وسط الطابور الكبير، رفعت يدي، اطلق أسامة صوته في الفراغ، أمر المسيحيين أن يأتوا علي اليسار، فيما طلب من المسلمين أن يكونوا يمينه، سرت همهمات وبعض التخبط إلي أن انقسمنا إلي كتلتين، انضممت إلي القسم الذي يضم المسيحيين، تقدم نحوي وقد استشاط غضباً، جذبني من يدي وانزوي بي مرة أخري قبل أن يقول:
- ماذا تفعل؟
أشرت إلي عم حنا وقلت بصوت حاد:
- هذا الرجل بمثابة والدي، إن حل به مكروه يجب أن يقع بي أولا.
ابتلع ريقه وقال بصوت هادئ:
- ومن أخبرك أن مكروهاً سيحل به؟
- لماذا تأخذونهم إذاً؟!
- هناك تشابكات سياسية عدة مع مصر ويجب أن يتم تصفية الأمر.
- وما ذنب هؤلاء؟
- سيكونون ورقة ضغط ليس أكثر.
- وإن لم تنجح المفاوضات؟
- سنطلق سراحهم.
نظرت له بتشكك وقلت:
- هل ستفعلون ذلك؟
- نعم، أنا لا أكذب، والآن عد إلي غرفتك فالوقت يداهمنا.
لم ينتظر قراري بل أشار لمن يتبعه فساقوهم إلي الخارج وأدخلوهم عنوة إلي السيارات الكبيرة المتراصة أمام الحوش.
حاولت الركض، الهرب من الحارسين عند الباب ولكن أحدهما دفع مؤخرة بندقيته إلي رأسي، سقطت بشكل مستقيم، تجاهلت هذه الآلام التي عزفت أوتارها بقوة، حاولت النهوض، انزلقت يدي عدة مرات رغماً عني، قمت بتثبيتها بشكل صحيح، ارتكزت عليها حتي نجحت في النهوض، كنت أري السيارات وهي تمر أمامي وكأنها أطياف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.