ميسرة صلاح الدين واحد من شعراء العامية المصرية القلائل الذين يجعلونني -وأنا شاعر الفصحي- أفكر في كتابة قصيدة عامية. فكيف أكتب عنه مقالة؟ علي خلفية قراءتي لديوانه الحديث "حرب الردة" الصادر هذا العام عن الهيئة العامة للكتاب برسوم للفنان مصطفي سليم. سوف أفكر معكم بصوت عال في "دردشة" ربما تبتعد عنه قليلًا ولكن لكي تعود إليه. طالما شغلني وصف اللغة العربية في صورتها المكتوبة ب"الفصحي" بألف ولام التعريف كأنما هو ارتباط حصري، وفي ظني بل في يقيني- أنه ارتباط ظالم؛ فالفصاحة ليست مرتبطة بتلك الصورة، أي لا يُشترط في اللغة لكي تكون فصيحة أن تكون هكذا فقط، بل يمكنها أن تقترح عدة "هكذات" تتحقق فيها جميعها الفصاحة؛ فالفصيح من "يُحْسِنُ البيانَ ويميز جيِّد الكلام من رديئه"، ويوصف الكلام بأنه فصيح حين يكون "سليمًا وواضحًا، يخلو من الإبهام وسوء التأليف"، واللسان الفصيح هو لسان "طلق يعين صاحبَه علي الكلام الجيِّد"، وتقول العرب: فَصُحَتاللَّبَنُ أي "خَلُصَ مِمَّا يَشُوبُهُ، أَيْ أُخِذَتْ رَغْوَتُهُ وَبَقِيَ خَالِصُهُ". حلو الكلام؟ أكيد حلو، إذن الفصاحة لا تشترط للتحقق إلا الوضوح والخلو من الإبهام وسوء التأليف، لكن ما حدث مع لغتنا العربية أنها لأسباب يطول شرحها- تمت مصادرتها لصالح نسخة واحدة من نسخ الإفصاح أو الفصاحة، ظنًّا ممن فعلوا ذلك أن في الأمر حماية لها، إلا أن النتيجة هو انفصالها عن مسايرة الحياة والواقع، فتجمدت تلك النسخة - ولكن لم تتجمد اللغة؛ نمت وتطورت وتبدلت وأبدعت وأفصحت وسايرت واستعارت وأعارت ومنحت وأخذت . . . كأي نسيج حي قادر علي التفاعل مع محيطه. إلا أن هذا التطور أو جزءا كبيرا منه- لم يُعره اللغويون عنايتهم ليدمجوه في نسيج النسخة التي أرادوا حفظها، وهو عمل في ظني آثم إذا عرفنا أن اللغة الانجليزية مثلًا تعيد النظر كل سنة فيما اقترحته الحياة من مفردات وأشكال وصيغ لغوية جديدة لتدمجها في متنها ليكتسب شرعية النمو في رحم الأم وليس خارجه. ما علينا، ما أريد قوله هو أن ميسرة صلاح الدين واحد من هؤلاء الشعراء الذين يجعلونني أفكر في هذه المساحة من الغني الذي تخسره العربية بحصرها الفصاحة في نسخة تاريخية واحدة من نسخها! "البحر كان أصفر قوي، والسما أحمر صريح ... احساسي بيكم كان كدا، ما يهمنيش" (ص7) هكذا يؤسس ميسرة لعلاقته مع قارئ ديوانه منذ البداية، فيما يشبه نيتي من وراء الدردشة الطويلة التي سُقتها أعلاه. إنه يواجه القارئ بصراحة بأن فصاحته هنا تخصه، إنه يعبر عن إحساسه الخاص، ولا يهمه "ما يهمنيش" بعد ذلك شئ. وإذا استكملت القراءة فأنت متفق معه. "النهارده أنا قريت الجرايد كلها، تحبوا أوصف لكم "آليس" في بلاد العجايب كان إحساسها إيه؟" (ص13) هو لا يستأذن -علي فكرة ذ في أن يصف لكم مدي اغترابه عن العالم، لقد وصف بالفعل مدعيًا أنه يستأذن! إنه استخدام ذكي لما تختزنه اللغةُ من أفكار، فاللغة ليست مجرد مفردات، إنها بنوك معلومات ومشاعر وأفكار، كثير منها مشترك في الذاكرة الجمعية، والمفردة أو العبارة مفتاح لمخزون هذه الذاكرة التي قد تكون محلية أو قبلية أو عنصرية، وقد تكون إنسانية مجردة، والفصاحة هنا هي الذكاء في اختيار المفتاح وإدارته بمهارة في ثقب الاستدعاء. "... وماكانش عارف إن الهروب مع نفسه محتاج معجزه لكن الهروب من نفسه محتاج معجزات" (ص 17) صياغة من تلك الصياغات التي تستدعي من القارئ هتافًا شبيهًا ب "يا بن الإيه؟" وهي الصيغة التي قد نلجأ إليها لنعبر بعفوية عن مدي نجاح شئ في تحريك مشاعرنا وحثّنا علي التفكير فيه في آن. هذه صياغة فصيحة تمام الفصاحة، ليست عاجزة و"لا بتعرج"، هل تظل كذلك إذا أعدنا صياغتها كالتالي: " لم يكن يعرف أن الهروب مع نفسه في حاجة إلي معجزة، ولكن الهروب من نفسه في حاجة إلي معجزات"؟ لا أعرف، ولكنها تفقد شيئًا ما يُشبه ما أفقده الآن لإضطراري بحكم العادة إلي التعبير عن مشاعري تجاه ديوان عامية بواسطة لغة مكتوبة، أظن أن قارئها يُعيد ترجمتها مرة أخري خلال القراءة إلي لغته العامية لكي يتمكن من الوقوف علي ما تعنيه. . .، أو بدقة شديدة: "يتذوق" ما تعنيه! العبوا هذه اللعبة نفسها مع القصيدة التالية-أو مع كثير من نصوص الديوان- وحددوا النتيجة بأنفسكم: "يا هل تري الذكريات تقدر علي الغربه؟ لو كان سؤالك برئ؛ أنا ليه إجابتي دموع؟!" (ص18) بعد قليل يضع ميسرة صلاح الدين شرطًا جديدًا من شروط الكتابة (من وجهة نظر الكاتب)- والقراءة (من وجهة نظر القارئ)، ولكنه يصيغها كالعادة شعرًا، وأنت حر في أن تلتقط الإشارة أو أن تتجاوز عنها وتستكمل القراءة: "لو تحب تهادي روحك حنّه من أسوان وشهدْ اجري عريان في القصيده وأنت مش باصص لحد" ( ص19) هل يقصد أنه -كشاعر - يفعل ذلك، أم أنه يطلب منك كقارئ أن تفعل ذلك في قصيدته، أم أنه يكني عن الحياة بالقصيدة ويضع الشرط الذي يراه لازمًا: الحرية والوضوح وعدم التلون "اجري عريان"،لكي يجني الإنسان أجمل ما فيها: "حنه من أسوان وشهد" بما يستدعيانه من لون ورائحة وطعم وشكل مرتبط بالزينة والغنج ... إنه تأويل ربما يصادف أصلًا، وربما يكون مفرطًا. ولكن في ظني أن كل تأويل اقترحته عبارة، فهو فيها. هذه التيمة تتردد مرة أخري في نهاية "الجولة الأولي" من الديوان، بطريقة تعبير مختلفة: "حواليك صحيح في ناس كتير لكنهم مش موجودينش والوحدة عملاك ضلها اقلع هدومك كلها متتكسفش" (ص25) رغم ما يغلف النصوص من إحباط واغتراب، فالغريب -أو الجميل- أن ميسرة ملتزم ربما من دون وعي- بأن يكون إيجابيًا؛ فهو لا يشكو ذلك الإحباط ولا يصيح من وطأة الوحدة والاغتراب واليأس وتشابه الأشياء والأيام والبشر. . .، إنما يعيد تذكير نفسه وقارئه بالحل: "اجري عريان في القصيدة...، اقلع هدومك كلها ...، متتكسفش"، إنه يستدعي الوعي الإيجابي ويؤسس لفعل المقاومة من دون أن يقدم مواعظه بطريقة منبرية، بل يقدمها ببساطة، أقصد - بفصاحة- تليق باحترامه للغته التي يفكر ويكتب بها. يمكننا الحديث طويلًا حول الأفكار التي يتضمنها ديوان "حرب الردة" لميسرة صلاح الدين، وكذلك الحديث طويلًا عن شعوره بالاغتراب، وعن نظرته المختلفة للحياة، ... إلخ، كما يمكننا الحديث عن الشكل الذي اختاره لتقسيم الديوان إلي "جولات" ثلاث، الأولي مع نفسه "معايا"، والثانية "معاكي" مع أنثي لن "نتفزلك" في تحديد كنهها؛ إن كانت الوطن أم الحبيبة أم غيرهما، وهي - بذكاء- تصلح للثلاثة ولغيرهما مما تجود به مخيلة القارئ. أما الجولة الثالثة فهي "معاها" ويستهلها بتداخل شخصي مع عبارة مأثورة: "من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا" فيضيف: "وأنا بقي مضحكتش لحد دلوقتي خالص"، وهو التداخل الشخصي الذي يقوم به في ثاني قصائد هذه الجولة مع مختارات من أشعار الأبنودي وأمين وفؤاد حداد - تحت عنوان "ثلاث مشاهد للقمر" (ص60). أقول يمكننا الحديث عن الشكل لنستخلص منه العديد من أطروحات النقاش، فهو غني وذكي معًا، كما يمكننا الوقوف عند الأفكار في الديوان . . . وهي نبيلة وعظيمة، ولكن متي كانت الأفكار مقياسًاوحيدًا للإبداع؟ الفكرة آخر ما نعول عليه في الإبداع. في ظني المتواضع أن الإبداع يكمن - أساسًا- في كيفية التعبير عن الفكرة، وهو ما أراه متجليًا في أسلوب وطريقة وصياغة ميسرة، بداية من اختياره لمفرداته التي إذا فككتها من منظومتها وأعدت صياغتها فقدت روحها - رغم بقاء فكرتها.مرورًا بالصورة الممتدة التي يرسمها كلُّ نص من نصوصه، إنه ليس معنيًا بتركيب مفردتين ببلاغة كلاسيكية كالاستعارة المكنية والتشبيه وغيرهما، لأنه بالأساس يكتب بلغة تعادي منظومتهما - آسف تعاديها منظومتهما- إنما البلاغة عنده ممتدة في صورة تنطلق ولا تتوقف إلا بنتيجة محسوسة مع القارئ؛ إما أن تدهشه أو تحيره أو تستنبتبداخله سؤالاً أو تطبطب علي روحه أو تشكها بإبرة، وإذا تركتُ نفسي لرغبتها فسوف أستشهد علي ذلك بحوالي60٪ من نصوص الديوان- باستثناء قصائد الجزء الثالث التي وقعت - قليلًا- في فخ المباشرة لأنه ذ في ظني- منحَ الفكرة تقديرًا واهتمامًا أكثر من "حلاوته المعتادة" في التعبير عن أفكاره. ليس أجمل من ترككم لبعض هذه الحلاوة الاسكندراني: "كانت عينيكي مواسم الإجابات وأنا قلبي كان طارح سؤال واحد" (ص28) "عطشان للحب وخايف وأنتي كمان عطشانجيه أنا ح عمل نفسي بحبك واعملي ملهوفه عليّا" (ص30) "كانت في جمال غين وذكاء سين، وسخونة نون ... يعني مافيش ولا واحده م التلاته هتقدر تهجرني بعد كده" (ص 32).