هناك نوع جسيم من الإهمال والإهدار، فادح الخطر علي تراثنا الفني بأسره، وهو ذلك الإهمال المتعلق بعدم التدقيق في كتابة تاريخنا الفني الوطني، والإهدار الناجم عن التساهل في تداول المعلومات التي توثِّق سيَر فنانينا المصريين، وبخاصة المتقدمين منهم من أبناء الأجيال الأولي من الحركة التشكيلية، أولئك الذين مورِسَت بحقهم ألوان من التفريط التوثيقي، وعانت أعمالهم ومنجزاتهم من سوء التدقيق البحثي، علي نحوٍ بات معه الاستسهال في نقل المعلومات التي تواترت عنهم، واستنساخها عن الشائع من المصادر والمشهور من المراجع، هو السبيل المطروق عند الكتابة عنهم لدي جمهرة عظيمة من الباحثين غير المدققين، وبخاصة منهم أولئك الذين يكتفون بوسائل البحث المكتبية، ويستغنون بها عن بقية أدوات البحث الميداني، وعن المراجعة الحية للوثائق الأصلية، ناهيك عن إجراء المقارنة بين المصادر ومطابقة بعضها ببعض. ويزداد الأمر سوءاً عندما ننتقل إلي كتابات كثيرين من المحسوبين علي الكتابة النقدية، يؤاخيهم في ذلك طبقة عريضة من الممارسين للكتابة الصحفية في حقل الفن التشكيلي ونقده؛ حيث يكون شيوع النقل دون تمحيص سُنّة متَّبَعة، وإرسال الوقائع علي عواهنها دون التثبُّث من مصادرها قانوناً عاماً. وهذا في اعتقادي أشد خطراً علي تراثنا الفني من كل إهمال ومن أي تقصير، إذ هو في حقيقته تلف يحيق بالذاكرة الثقافية الوطنية، وإهدار يلحق بوقائع التاريخ الفني المصري، فيشوهها ويلوي عنقها ويفرغها من مصداقيتها في صميم مرجعيتها البحثية. ومن أوضح أمثلة هذا النوع من الإهمال التوثيقي والتقصير البحثي اللذين طالا بعض متاحفنا، التي أسهم عددٌ من فنّانينا الرواد والمشاهير في تصميم مبانيها، وفي تنسيق عروضها، وكذلك في إثرائها بروائع الأعمال وبدائعها. ومن النماذج التي يتضح فيها أثر هذا القصور التوثيقي، بعض الأعمال الفنية التي ارتبطت لمدة كبيرة بمتحف الشمع المصري، والتي نشرت صورها وكُتِب عنها في عدد من الصحف والمجلات المصرية الشهيرة، باعتبارها من بدائع النماذج الشمعية المصرية، غير أنها وللأسف الشديد غير معلومة المصير حالياً، بسبب عدم اهتمام كثرة من مؤرخي الفن ونقاده وباحثيه بتوثيق أعمال الفن المصري الحديث. وحين نتحدث عن متحف الشمع فلابد أن نأتي علي سيرة »فؤاد عبد الملك« (1878 1955)، ذلك الرجل الفذّ المنسي، الذي أسدي للفن المصري خدمات جليلة، كان علي رأسها تأسيس هذا المتحف، الذي سُمّي عند بداية إنشائه باسم »المتحف التاريخي المصري«، والذي ظل لسنوات يطاول أشهر متاحف الشمع في العالم، قبل أن تصير حالته إلي ما هو عليه الآن. ويعتبر فؤاد عبد الملك من الشخصيات المهمة، التي أسدَت خدمات جليلة للفنون الجميلة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. وقد أنشأ «عبد الملك» متحف الشمع في صيف 1934، وكان يحتل عند إنشائه قصر »تيجران« بشارع »إبراهيم باشا«، ثم انتقل في 1937 إلي شارع »القصر العيني«، لكن هذا المقر هُدِم، فنُقِلت محتوياته إلي حلوان بمقره الحالي، الذي افتُتِح في 6 أغسطس 1955 ويشمل المتحف ثلاثين منظراً أغلبها تاريخية، وقد قام بعمل هذه التماثيل والمناظر بعض مشاهير فنانينا من النحاتين والمصورين، وهم: »عبد القادر رزق«، و»مصطفي نجيب«، و»مصطفي متولي«، و»حسين بيكار«، و»علي الديب«، و»محمود حسني«. ويُصَنَّف متحف الشمع باعتباره متحفاً تعليمياً؛ إذ يحكي من خلال عشرات التماثيل تاريخ مصر مجسماً. وكان يُعَد، إلي فترة ليست بالبعيدة، قبل أن يتأثر مستوي معروضاته بعوامل الزمن، الرابع علي مستوي العالم بعد متاحف فرنسا وإنجلترا واستراليا من حيث جودة المقتنيات التي يضمها وعددها. ويضم المتحف وفق المنشور عنه بأغلب المصادر - قرابة 116 تمثالاً و26 مشهداً تحكي تاريخ مصر، بدءاً من الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، حتي ثورة 23 يوليو 1952، مروراً بالحضارات اليونانية والقبطية والإسلامية، من خلال العديد من التماثيل الشمعية التي وضعت لها خلفيات مرسومة مكملة. ويعتمد تقسيم المتحف علي تخصيص عدد من القاعات لكل فترة زمنية معينة، يحيط بكل قاعة حديقة، ويمكن المرور من مشاهد عصر إلي عصر آخر عبر الغرف المتصلة بشكل متوالٍ، يسرد الحقب الزمنية في ترابط تاريخي، وتنتهي هذه القاعات بممرات مؤدية إلي صالات أخري تعرض بها مقتنيات المتحف. ويبدأ الزائر بقسم الحضارة المصرية القديمة، لينتقل لقاعة تتضمن مشاهد تروي قصصاً وروايات عن عهد الإسلام والخلفاء الراشدين ومعظم القادة العرب. وبِرُدهة العرض الأخيرة توجد عدة مشاهد مصرية شعبية، إضافةً للمشهد الذي خُصص للرئيس الراحل «جمال عبدالناصر«. غير أن المتأمل الفاحص لمحتويات المتحف، سرعان ما يلاحظ ضعفاً في المستوي الفني لعدد كبير منها، تتجلي فداحته حين يقارنه بأسماء الأفذاذ من الفنانين، الذين شاركوا في نحت التماثيل ورسم خلفياتها، فكيف تأتّي مثل هذا الضعف؟ وكيف حدثت مثل هذه المفارقة؟ من المعلوم أن التماثيل الشمعية تحتاج إلي عناية خاصة، نظراً لطبيعة المادة المنحوتة منها، التي تتأثر بتعاقب اختلاف الحرارة والبرودة، مما يستلزم عرضاً خاصاً يراعَي فيه تثبيت درجات الحرارة والرطوبة عند حدود معينة، كما يستلزم متابعة فحص المعروضات الشمعية دورياً، لمعالجة ما يطوله التغير منها، ومراجعة مدي ثبات ملامح الوجه ودقتها، وبخاصة في تماثيل المشاهير التي يجب أن تطابق أشباه أصحابها، وكذلك مراجعة أية تغيرات قد تطرأ علي النسب التشريحية للتماثيل، بسبب أي تمدد قد يحدث للمادة الشمعية بفعل حرارة الجو. ويستلزم ذلك كله بطبيعة الحال اضطلاع نحاتين مهرة بتنفيذ هذه المهام الدقيقة، حتي تظل المعروضات علي المستوي نفسه من الجودة والرونق، وهو ما تعرفه جميع متاحف الشمع في العالم وتطبقه بشكل روتيني. غير أنه للأسف لا يطبَّق في متحف الشمع المصري، الذي ظلت محتوياته معروضة علي مر السنين الطوال في درجة الحرارة العادية، معرّضة بذلك للتمدد في قيظ الصيف وللانكماش في برد الشتاء، مما أثر تأثيراً سلبياً علي دقة ملامحها وعلي النِسَب التشريحية لأجسامها. كما أن انتقال محتويات المتحف عدة مرات، خلال تغيير مقراته، وتغيير الوزارات والإدارات المُشرفة عليه، منذ إنشائه إلي اليوم، أدي إلي ضياع عددٍ من النماذج التي كان المتحف يزدهي بها؛ والتي تُثبِت أثر ضعف التوثيق وعدم المتابعة البحثية علي فَقْد أعمال فنية جديرة بالإعجاب؛ فحين نتطلع إلي إحدي الصور التي نشرتها مجلة «الإثنين» عام 1960، نلفي أنفسنا بإزاء واحد من أبدع معروضات المتحف في تلك الفترة، وهو تمثال شمعي لمؤسس المتحف ذاته، «فؤاد عبد الملك»، وقد جلس إلي مكتبه رافعاً رأسه عن أوراقه ليرمق بعينيه زائر المتحف. ويتكرر الأمر حين نتطلع إلي صورة نشرتها مجلة «الهلال» خلال الفترة ذاتها لعمل آخر من أعمال المتحف، وهو تمثال نصفي من الشمع للزعيم الوطني «سعد زغلول»، بلغ ذروة الاكتمال في المستوي الفني. هكذا يُسهم ضعف التوثيق المنهجي والبحث المُدَقِّق في غياب ملامح مهمة من ذاكرتنا الفنية الحديثة.