«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق إلي مطماطة
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 10 - 2015

المكتوب بالألمانية "لطَلَبَّية" ملابس الجنود علي الجبهة، طرأ في ذهني سؤال: هل كان مسئولو وعمال المصنع يهتمون بمعرفة كم عدد القتلي ممن ارتدوا الملابس التي صنعوها.. وكم عدد من قام هؤلاء بقتلهم؟!.. لكن.. أكان ذلك ذنبهم؟
بحثت عن ألبوم الصور، تصفحته قليلاً ثم أغلقته عند صورة أم ابني.. تخيلتها في صورة واحدة مع ناتالي.. تُري.. كيف ستبدوان في الزي العسكري؟
وقف فنانو "السمبوزيوم" بالقرب من شاطئ البحر في انتظار الميكروباص. كانوا ثمانية بين رسام ونحات، منهم اثنان فقط من العرب: حازم المصري وعُلَيَّا التونسية، والباقون فرنسيون وإيطاليون بينهم امرأة واحدة. نسائم الصباح المنعشة تداعب خد حازم برقة، فيما تداعب خصلات شعر عُليَّا بنزق، فتشيطنها ولا تفلح محاولاتها المستمرة للسيطرة عليها بيدها، رفعت نظارتها الشمسية الكبيرة وثبتتها فوق الشعر الهائج الذي أصبح أكرت بسبب الرطوبة.. تأمل حازم ، لأول مرة عينيها السوداوين محددتين بكحل كثيف، وأشعة الشمس القوية تضئ جانباً من وجهها وتعكس الظلال علي الجانب الآخر فتكسبها غموضاً، فكر أن يخبرها بأنه يود أن يرسمها، ثم أجَّل ذلك إلي وقت آخر.. سألها:
- كم تستغرق الرحلة من المحرس إلي مطماطة؟
- حوالي ساعتين.. لكنك لن تشعر بملل.. في الطريق ما يغري بالمشاهدة.. وسنعود قبل المساء علي أي حال.
وأضافت ضاحكة وهي تغمز بعينها المغمورة في الظل:
- ثم إنني سأكون بجانبك !
شكرها بابتسامة قائلاً باللهجة التونسية:
- يعيِّشك !
ضربت كفه بكفها علي الطريقة المصرية ضاحكة، فلمعت أسنانها الناصعة:
- ملعوبة يا دكتور !
لم يفته تلميحها بأنها ستكون بجانبه، كما لم تفته ملاحظة اهتمامها الخاص به منذ مجيئه للاشتراك في السمبوزيوم قبل أسبوع، لكنها تبدي هذا الاهتمام باعتباره إعجاباً بمصر التي تعشقها.. فقد تربّت علي الأفلام المصرية والأغنيات المصرية واللهجة المصرية والنكتة المصرية وكل شئ مصري منذ طفولتها، وحلمت دائماً بالسفر إلي مصر.. وها هي مصر كلها قد جاءت إليها !.. هكذا قالت له مرة.. وبالأمس زيَّنت له أن يصحبها مع المجموعة في هذه الرحلة. لم يكن متحمساً لذلك لرغبته في إكمال الجدارية التي بدأها علي جدار أحد مباني المدينة.. فهذا هو الهدف أساساً من مجيئه، وتلك فرصة طالما حلم بمثلها منذ زمن طويل. قالت له: لكنك لن تندم.. بل ستشكرني.. فلن تجد تونسية حسناء مثلي لتكون مرشدك الخاص في هذه الرحلة. تقول لك ما لن تسمعه من شخص آخر.. أما جداريتك فلن تغادر الحائط وتطير، فستجدها في انتظارك!.. في النهاية قال مستسلماً باللهجة التونسية: لا باس!
كانت قد لاحظت مبكراً بجهاز استشعار حواء ذ أنه غير مرتبط، دون أن يتحدث عن ظروفه الاجتماعية أو ظروفها، وأدرك أنها في مرحلة عمرية دقيقة حتي تلحق بقطار الزواج، فهي في الخامسة والثلاثين علي الأقل، وهو علي مشارف الخمسين، لكن ذلك الفارق لا يمثل مشكلة تحول دون ارتباطهما. ربما فكرت علي هذا النحو، لكن المشكلة فيه هو، بالرغم من إعجابه بها وانجذابه إلي شخصيتها المرحة المتدفقة بالحيوية التي لا تعرف اللف والدوران، علي عكس بنات بلده.. المشكلة أن حياته لا تزال مرتبكة بعد عامين من الانفصال. فما أن يشرع في ارتباط جديد حتي يطل فشل العلاقة الزوجية السابقة كالشبح، وقد تملكه يقين بأن في داخل كل امرأة شيطان كشيطان زوجته، فما بالك بعُليَّا التي لا يعرف عنها أي شئ!.. ما يحتاجه الآن بشدة هو الاستقرار نفسياً ومادياً، خاصة مع ما يتكلفه شهرياً كنفقات لأولاده، ولا يستطيع مرتبه بالجامعة الوفاء بالتزاماته الثقيلة، كما أن توقفه عن إقامة معارض للوحاته، أدي إلي انقطاع أي دخل يأتيه من فنه. لذا فإن ما يعقد عليه الأمل اليوم هو الفن.. فهو وحده القادر علي تهدئة مشاعره القلقة، وعلي أن يعيد إليه التوازن والثقة والهدف، فوق الاستقرار المادي.
2
الميكروباص الأبيض يمضي بحذاء الشاطئ وهو يقل فناني السمبوزيوم، ماراً بالتماثيل والأعمال الفنية المركبة في الخلاء التي قام بتنفيذها فنانون من مختلف الدول عبر السنوات الماضية فوق "البلاج" العريض علي امتداد مدينة المحرس الراعية للمهرجان السنوي، حيث اجتمعت في هذه الأعمال مختلف الأساليب الفنية من الواقعية حتي ما بعد الحداثة، مروراً بمذاهب التجريد والتكعيب والسريالية.
احتلت عُليّا بمجرد وصول السيارة الكرسيين الأماميين خلف السائق لجلوسها بجوار حازم، وبدأت علي الفور تفي بما وعدت بأن تكون مرشدته السياحية الخاصة طوال الرحلة. فحدثته عن تاريخ المحرس التي كانت قلعة الدفاع الأمامية "للمرابطين" في أقصي نقطة للحدود التونسية المطلة علي البحر المتوسط في مقابل الشواطئ الأوروبية.
وعندما دخلت السيارة الطريق الصحراوي نحو صفاقس راحت تحدثه عن الشواهد الأثرية التي يمرون بها في الصحراء؛ بقايا القصور البدائية المدفونة في الرمال.. البنايات المهجورة المائلة إلي الوراء كأبراج بابل تتصاعد في أدوار عدة، تتخللها مدارج وفتحات وممرات ملتوية.. الكثبان الرملية تصعد وتهبط في تكوينات جمالية مثيرة وتبتلع كل شئ حتي النخيل فلا يبقي فوق الرمال حياً غير الجريد الأخضر. تذكرت عُليَّا شيئاً فقالت بدهشة:
- غريبة!.. يُهيأ لي أنني رأيت بعض لوحات لك علي النت تشبه هذه الأجواء!
- فعلاً هي لوحاتي.. استوحيتها من بعض الصور الفوتوغرافية المنشورة دون أن أعرف أين مكانها، رأيتها خيالاً وإلهاماً كعالم أسطوري.. وها أنذا اليوم أجد الخيال حقيقة ! لكنها في لوحاتي مختلفة ولا شك.. أليس كذلك ؟
وافقته بحماس قائلة: تماماً.. حين رأيتها ذكرتني بالفنان دي كيريكو.. ألا توحي بذلك؟
- ربما.. أنا أحبه علي كل حال.. كلانا يبحث عن شئ مجهول.. أسطوري.
- لكن شتَّان ما بين ابن الغرب وابن الشرق.. هناك.. الرؤية بالعقل.. وهنا.. بالروح! ضحك قائلاً: أنت ناقدة أيضا!
- أنا فنانة وبس:
- أين لوحاتك إذن؟.. وعدتني أن تريني إياها.
سارعت بإخراج "الموبايل" وكأنها كانت في انتظار السؤال. اقتربت منه حتي التصقا ليتمكن من رؤية اللوحات علي الشاشة الصغيرة. كان يتوقع شيئاً مختلفاً، ربما تحت تأثير حديثها عن مشاركتها في أحداث الثورة التونسية، وعن أنها لا تزال ناشطة سياسية مع جبهة اليسار، وعن دور الفنان في قيادة الجماهير ومدها بالوعي، لكن ما يراه ينتمي إلي التجريد الخالص في أوروبا تحت مسمي "التجريدية التعبيرية" بدون تميز خاص.
سألته عن رأيه في قلق.. قال:
- مزيان!.. لكن.. أين ما قلته منذ قليل عن روح الشرق؟
- موجودة.. ألم تحس بها؟.. كاندينسكي أبو التجريد الغربي هو مؤسس الروحانية في الفن.
- نعم.. علي طريقته.. فأين طريقتك الخاصة؟.. أري هنا أعمالا أوروبية.
- الفن ليس له هوية.. هناك فن.. أو لا فن.
- لا فن بدون هوية.. أين هويتك؟.. أين عُليّا التونسية؟.. لا أقصد المظاهر والفلكلور.. بل أقصد الإحساس وخصوصية الأسلوب.
شعر بخيبة أملها وهي تصمت، ثم تبتعد عنه قليلاً.. ثم تقول:
- سامحني يا دكتور!.. هذا كلام قديم جداً.. لعلك تريد أن تقول: أين الثورة؟
لكن لا ينبغي للفنان أن يتبع خطي الثورة.. بل العكس.. علي الثورة أن تتبع الفن.. لأنه يقود إلي الحرية.
أدرك أن المناقشة لن تفضي إلي شئ، لقد خاض مثلها مراراً بغير طائل، في الوقت الذي استشعر في كلامها قدراً من الادعاء تغطي به تواضع موهبتها، فغيَّر لهجته وهو يثني علي أسلوبها الجرئ وألوانها المتناغمة، مؤكداً أنه ليس ضد التجريد بل يراه قريباً للموسيقي.
أعادت كلماته الثقة إلي نفسها والحيوية إلي ملامحها والعفوية إلي تصرفها، فاقتربت منه ثانية وهو تقول معابثة:
- إنك لا تستطيع أن تنسي أنك معلم في الأكاديمية يا دكتور !
3
حدثته عن البربر ونسائهم في مطماطة اللاتي يعملن كل شئ: يرعين الأغنام ويصنعن الزبد والجبن، ويطحنَّ ويخبزن ويربين الأطفال وكل شئ، ثم ينتظرن الرجال في صبر ويكتسبن الحكمة من الصبّار في الصحراء، إذ يحيا علي قطرات الندي.
- والرجال.. أين هم؟
- الطوارق؟.. هم الملثمون البواسل، ساهرو الليل كالأشباح يجوبون الصحراء، هناك بعيدا، يؤَمِّنون الحدود من إغارات قُطَّاع الطرق، ويكسبون النقود من تجارة الإبل والأغنام، ويعودون بعد شهور إلي ذويهم في الكهوف داخل بطن الأرض، فلا يعرفون من العالم شيئاً خارج محيط الصحراء وحكمة الأجداد.
يزداد شعوره بالحميمية نحوها، أعترف بأنها ليست بالتفاهة التي تصورها عليها من قبل، تعددت مرات التقاء أيديهما صدفة أو (كأنها صدفة) تلقَّي رسالتها الضمنية باستعدادها للزواج منه، لم يستطع القطع بإجابة واضحة، شعوره يتراوح بين الإقبال والنكوص، نكوصه لا يأتي من ظروفه وحدها، بل كذلك هناك خوفه من شخصيتها المقتحمة بجرأة، وبعض الادعاء الثوري الأجوف، لقد عرف كثيرات من هذا النوع عبر السنين، وما أن يدخلن بيت الزوجية حتي يختلف كل شئ عن علاقتهن بالسياسة والثورة!.. عليه إذن ألا يحمل همها من هذه الناحية علي الأقل!
- من حقك أن تسألني عن حياتي إذا كنت تريد.
هكذا قالت ببعض الخجل والتردد، لعلها تفتح الطريق كي تعرف هي.. ما تريد عنه! استمع منها إلي سيرة عادية لإحدي بنات الأسر المتوسطة، وأنها عاشت تجربة ارتباط انتهت سريعاً من جانبها لعدم التكافؤ الفكري، مؤكدة أن هذا الجانب هو الأكثر أهمية بالنسبة لها.. صمتت فترة حتي استطاعت أن تسأله:
- وأنت ؟
وجدها فرصة لاختبار مدي تمسكها به، فحكي لها بصراحة أن له ثلاثة أبناء من زواجه الأول أكبرهم في الجامعة، أما زوجته الثانية فقد تخلي لها عن شقته لأنه الذي قرر الانفصال، ويعيش الآن في سكن مفروش مؤقت لأنه لا يقدر علي شراء شقة خاصة فضلاً عما يتحمله من نفقات شهرية لأبنائه، وهذا ما يجعله يقرر أن يجعل الفن قضيته الأساسية في هذه المرحلة حتي تستقر أحواله.
لم تستطع إخفاء شعورها بالصدمة.. أخذت تتباعد تدريجياً بجسمها عنه، وتميل برأسها علي زجاج النافذة سارحة بفكرها بعيداً.. ثم بدت وكأنها تستدعي النوم، فتغمض عينيها، وإن ساوره الشك في أنها استغرقت في النوم.
4
أمام الحفرة هائلة الاتساع العميقة تحت مستوي سطح الأرض وقف الفنانون في ذهول. كانت عُليَّا تقف مع "ألبير" الفرنسي تشرح له وللمجموعة بالفرنسية ما تعرفه عن المكان وإن لم يفهم ما تقوله لعدم إلمامه باللغة، تقابلت عيونهما وتبادلا الإبتسام وهي مستمرة في حديثها بحماس كمرشدة سياحية، بدا له أن تلك هي موهبتها الحقيقية، تذكر ما قالته له قبل مجيئها بأنها ستكون مرشدته الخاصة في الرحلة، فكنت مجرد "بروفة" تدربَتْ فيها علي مهمتها التالية ! ، قادت المجموعة أثناء النزول إلي الحفرة ذات السلالم الحجرية بعمق عشرين متراً أو أكثر، وبجوارها "ألبير" خطوة بخطوة. قرر بعقل بارد وضع نهاية للأمر وكأنه لم يكن، مُعزِّيا نفسه بأن الأقدار أنقذته من مصير قد يجعله يندم بقية عمره. فكر مبتسماً بسخرية: إنه الربيع العربي.. زمن المقدمات الثورية والنتائج العكسية!
تأخر قليلاً عن المجموعة وهي تنزل إلي الحفرة. بدا له المشهد من أعلي كلعبة الدوائر وحبات البِلْي الصغيرة التي يدحرجها الأطفال نحو المركز عبر ثغرات تفتح علي ممرات حلزونية. كان جو المكان مثيراً حتي استولي عليه وأنساه أي شأن آخر.
وقف في الفناء في باطن الحفرة يتأمل فتحة البئر المستديرة المسوَّرة بحافة قصيرة. إنها في مركز الدائرة تماماً. رأي علي جوانب الحفرة المنحدرة إلي الخلف بضعة مدرجات حجرية صاعدة بدرجات سلالم لا تحصي، إلي فتحات كأبواب القبور، وراء كل فتحة ممرات مظلمة بداخل الصخر، تقود إلي حجرات صغيرة علي شكل أقبية منخفضة الأسقف. تذكر بغموض المقابر الفرعونية بالأقصر، درجة الحرارة فيها منخفضة كأن هناك جهاز تكييف في مكان ما.. فيما تصل في الخارج إلي أكثر من 40 درجة مئوية.
في أحد الممرات التقي عُليّا بصحبة ألبير وحدهما، بادلها التحية بشكل طبيعي.. قالت ببراءة: اين اختفيت؟.. لم لا تنضم إلينا؟
غمغم بأنه ليس بعيداً عنهم، علي بعد خطوات رأي بقية المجموعة منشغلين بالتقاط الصور أو مندمجين في لعبة "الأستغماية" بين الفتحات والممرات المتداخلة كبيت المرايا لكن بلا مرايا، يفاجئون بعضهم البعض في شبه الظلام إثر اختباء وبحث، ثم يضحكون في ضجة، بعد قليل رأي عُليّا وحدها مختفية خلف زاوية، أشارت بأصبعها إلي فمها محذرة له من الكلام، وقف يراقب الموقف من بعيد، ظهر "ألبير" يتلفت باحثاً عن أحد، فجأة ظهرت أمامه وهي تصرخ كالأطفال، ثم تضحك مندفعة بين ذراعيه.
5
يتخذ مساراً خاصاً بعيداً عن الجميع، مسحوراً بغموض التجاويف الصخرية، مندهشاً لتيار الهواء الذي يتخللها، من أين يأتي الهواء وهم في هذا العمق تحت سطح الأرض؟!.. فوجئ بعد قليل بنور وهَّاج يفرش الممر ويضئ الحجرات المفتوحة عليه. تتبع الشعاع حتي اكتشف مصدره؛ كان يأتي من فتحة علوية صغيرة استطاع أن يري رقعة من السماء من خلالها. تبين له وجود الكثير من هذه الفتحات عبر الممرات المختلفة. استعادت ذاكرته بيوت "الواحات الداخلة" بصحراء مصر الغربية؛ قري بلاط، القصر، بشندي، بشوارعها المسقوفه ودروبها المتلوية، تظللها أسقف من جذوع النخيل وغصون الأشجار، تحمل حوائط طينية لحجرات تصل بين جانبي الطريق، تسكنها العائلات الممتدة من الأجداد إلي الأحفاد، في تواصل زماني ومكاني حميم، يقارنها حازم بهذه الكهوف الباردة في بطن الأرض، وهي تشعرك بالعزلة عن العالم، فكر: كيف يتم التواصل هنا بين السكان؟ تذكر ما قالته عُليَّا عن اللغة الأمازيغية التي يتواصلون بها، وهي التي يناضل البربر للاعتراف بها لتأكيد هويتهم. يستدعي بخياله اشكالاً سحرية كحروف للغة مجهولة. يحاول أن يرسمها بإصبعه علي الجدارن مفترضاً ظهورها، وكأنه يشكل أول لوحة من مجموعة سوف يرسمها من وحي هذا المكان.
استدرجته الممرات والكهوف، فصال فيها وجال مشغوفاً بفكرة (اللابيرانت)، بألف حجرة ومائة باب.. لاحظ بدهشة اختفاء السكان.. ليس هناك غير الصمت، فكر أن الدولة تقوم بتوظيف المكان كمتحف سياحي بعد إخلائه من ساكنيه، ثم تذكر عند وصول الفنانين أنه رأي امرأة بدوية قبل نزولهم إلي القاع وهي تسحب دلو الماء من البئر، كما رأي أخري تطرز ثوباً بزخارف هندسية وهي جالسة قرب أحد المدارج الصاعدة. فكر أن ذلك ربما كان جزءاً من البرنامج السياحي، أو من خيال طاف به واختفي !
لا يدري كم مر من الوقت؟.. وأين ذهبت عُليّا والآخرون؟.. استبعد فكرة أنهم ذهبوا ونسوا أمره.. سوف يؤنبهم علي ذلك بأقسي لهجة. حاول الخروج للبحث عنهم. كلما انتقل إلي نقطة اكتشف أنها هي نفسها التي كان يوجد بها منذ لحظات، أو ربما كانت تشبهها تماماً، بوسعه أن يري السماء من الفتحات العلوية، لكنه يعجز عن الوصول إلي فتحة واحدة تطل علي الفناء. تولاه الخوف وكأنه في كابوس يعجز عن الإفاقة منه.
فجأة رأي مصدراً للضوء لا يأتي من أعلي بل من أسفل، تتبعه فوجد نفسه عند فوَّهة تطل علي الفناء.. خرج ملهوفاً وتنفس الصعداء غير مصدق أنه نجا. نزل الدرج الحجري الذي بدا أنه يتكون من مئات السلالم. توقع أن يري عُليّّا والآخرين في انتظاره عند البئر. لم يجد أحداً. صعد إلي الجهة المقابلة حتي وصل إلي الحافة العليا للحفرة متوقعاً أن يري الباص وبداخله الزملاء في انتظاره. تلفت في كل اتجاه بحثاً عنهم دون جدوي. رأي امرأة بدوية ترعي قطيعاً من الأغنام. سألها عن سيارة بيضاء بها بعض الأشخاص فأشاحت بوجهها. ظن أنها لم تفهم لغته لأنها لا تعرف غير الأمازيغية. قام بشرح ما يقصده بالتمثيل الصامت بيديه كأنه يقود سيارة. أشارت بذراعها تجاه الشرق. استنتج أن يكونوا قد توجهوا لزيارة مستعمرة أخري تحت الأرض في الجوار. مضي إلي حيث أشارت البدوية وهو يسابق الوقت، وضربات قلبه تسبقها بإيقاع مارش عسكري. وجد أثرا في الرمال لعجلات سيارة ثم سرعان ما اختفي، وشمس الغروب تسحب خيوطها الذهبية رويداً من الأفق حتي يكتسي الكون بالشحوب. يندفع حازم مهرولا وسط الصحراء الممتدة بغير نهاية باحثاً عن السيارة البيضاء، أو أية سيارة أخري، بل أي كائن يتحرك !
علي سفح الجبل بالبر الغربي للأقصر، تتناثر فُوَّهات سوداء لمقابر الأسلاف المهجورة، بعد أن اقتحمها اللصوص في أزمنة قديمة وسرقوا مجوهراتها ومومياواتها، لكن نوافذ بيوت الأهالي الطينية علي مدارج جبل القرنة، بواجهاتها البيضاء ذات الكرانيش البارزة والحليات الزجزاجية أعلي الجدران، تتجمل بنوافذها الصغيرة الملونة بشتي الألوان كقطع الفسيفساء، أو كحبات عقد انفرطت فأخذت تُرصِّع اللوحة الأزلية لسفح الجبل، وهي تستقبل أشعة شمس الصباح، بإشراق يتحدي مظاهر الموت المؤقت علي مر القرون !
ينتشر فنانو مرسم الأقصر القادمون من شتي الأقطار علي امتداد المشهد بين الهضبة والجبل، ويختار كل منهم زاوية يرسم منها تكوينه الفني برؤية خاصة، ينتقل بينهم بضعة صبية وفتيات صغيرات، من أبناء النجوع المجاورة، يلاحقون الفنانين بنماذج جصية مقلدة من تماثيل وجعارين فرعونية آملين في بيعها لهم، بعد أن أوشك السياح علي الانقطاع عن زيارة الآثار منذ حوادث الإرهاب، أما الفتيات الصغيرات فكن يعرضن عرائس بدائية نُفذت من قطع القماش الملونة وحُشيت بالقطن، وحيكت تفاصيلها بخيوط سوداء غليظة بواسطة الإبرة، فلا يهتم أحد بهم أو بهن إلا قليلاً.
ضاق الفنان حسن بتزاحمهم حوله حتي أصبحوا يعطلونه عن الرسم، ولاحظ عن بُعد طفلة في السابعة تنزوي جانباً محتضنةً عروسة كالآخريات، لكنها كانت أقرب إلي الولد منها إلي الأنثي بسبب شعرها المقصوص حتي فروة الرأس، كانت تراقبه من بعيد باهتمام، عازفة عن مزاحمة رفيقاتها. أشار لها للاقتراب منه، ظلت في مكانها مترددة، علي عكس الآخرين الذين تسابقوا نحوه حتي أحاطوا به وحجبوها عنه، كان الفقر بادياً عليهم بدرجة ملفتة؛ أقدام حافية غطاها التراب، وجوه انتشرت عليها البقع البيضاء بسبب الأنيميا، تستدعي أسراب الذباب للوقوف عليها بسبب قذارتها، ملابس مهلهلة لم تعرف الغسيل منذ زمن.. روائح كل هذا تنبعث بشدة فتصيبه بالاختناق.. صاح فيهم قائلاً إنه لن يشتري شيئاً، وطلب منهم بحدة أن ينصرفوا بعيداً حتي يستطيع العمل، يؤلمه خاطر بأنهم قد يكونون خمائر لإرهابيين في المستقبل !
لم ينصرفوا إلا حين شاهدوا بعض السياح ذاهبين في الاتجاه الآخر، فهي فرصة نادرة لا ينبغي أن تفوتهم. لاحظ أن الطفلة حليقة الشعر لا تزال واقفة في مكانها، ناداها مشجعاً، جاءته وهي تحس ببعض الاطمئنان.. داكنة السمرة، لكنها سمرة رائقة، عينان سوداوان بلمعة توحي بالذكاء، سألها:
- مالك ؟
- مافيش.
- أنت خايفة ؟
هزت رأسها بالنفي.. وهي تبتسم لأول مرة. سألها مشيراً إلي العروسة في حضنها:
- دي عروستك ؟
هزت رأسها بنعم وهي تزداد احتضاناً للعروسة. كانت العروسة مختلفة عن كل عرائس الأخريات؛ ذات رأس كبير جداً بالنسبة للجسم، وشعر قصير منكوش رُسم بخيوط سوداء عشوائية حول الوجه، ترتدي فستاناً ذا ألوان بهيجة من قصاقيص قماش متنوعة الألوان، وعلي الخدين بقعتان حمراوان.
سألها إذا كانت تريد أن تبيعها فهزت رأسها موافقة وعيناها تلمعان بلهفة.
- مين اللي عملها ؟
- أنا.. وأختي ساعدتني.
سألها عما لديها غير هذه العروسة، فأخبرته بأنها لا تملك غيرها، وهي أول عروسة تصنعها، ولما لم تستطيع بيعها علي مر الأيام الماضية لم تحاول صنع غيرها. عرف أن اسمها مريم وأنها لم تذهب إلي المدرسة، لكنها تعلمت كتابة الحروف والأسماء بمساعدة أخيها الأكبر.. لاحظ نظافتها بالرغم من الفقر البادي علي ملابسها.
- أورِّيك ؟
أعطاها قلماً ودفتر الاسكتشات، فكتبت اسمها بحروف متعثرة. سألته عن اسمه، وعندما أخبرها به كتبته بجوار اسمها. أراد أن يكافئها فاشتري منها العروسة بالسعر الذي طلبته. أخذت الورقة ذات الخمسة جنيهات وانطلقت تسابق الريح حتي اختفت في شعاب الهضبة نحو بيوت النجع.
2
في اليوم التالي وجدها أمامه تزاحم الأخريات بجرأة لم تكن لديها بالأمس، كانت تحمل عروسة جديدة وهي تضحك له كأصدقاء.. سألها:
- إمتي عملتيها ؟
- أمبارح، بعد ما روَّحت وأديت الفلوس لأمي.
انشغل عنها بالرسم. انصرفت رفيقاتها يائسات من أنه سيشتري منهن، لكنها ظلت واقفة تراقبه. أخبرها بأنه لن يشتري عروسة ثانية، وأن الأفضل لها أن تذهب حيث السياح هناك يمكنهم شراؤها. هزت كتفيها بما يعني عدم اهتمامها بالبيع.
- طيب ليه جيتي يا مريم ؟
سكتت قليلاً قبل أن تقول في خجل:
- عاوزة أقف معاك !
ربَّت علي خدها برقة قائلاً:
- لكن يمكن أمك محتاجه الفلوس.
- حاقول لها إن مافيش حد رضي يشتريها مني.
- لكن انتي تعبتي عشان تعمليها.. ليه ما تبيعيهاش ؟
هزت كتفيها وإصبعها علي شفتها السفلي وقالت:
- حاديها لك لما ترسم لي صورة.
أكد لها أنه سيرسمها بدون مقابل بعد انتهائه من اللوحه. قالت: ميته؟. قال إنه لا يعرف تحديداً، لكن ربما ينتهي منها اليوم وسوف يرسمها غداً. قالت:
- عاوزاك ترسمني بشعري كده.
- عاوزة تكوني زي الولد ؟
هزت رأسها بالإيجاب. قال مندهشاً: طيب ليه ؟
- لو كنت ولد كان أبويا حنَّ عليا زي ولاده !
- أنتو مش إخوات مع بعض ؟
- هم ولاده التانيين من مرته الجديدة.. وعايشين بعيد عنا في نجع تاني.. وسابني مع أمي واختين أكبر مني.. وعاوز ياخد أخويا الكبير معاه.. هو راجلنا.. يعني نعيش إزاي من غير أخونا؟.. إزاي وأبويا مش بييجي حدانا ؟
كانت تضم عروستها إلي صدرها بقوة حتي تكاد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.