تطوير أم أهدار لتاريخنا كان محمد حافظ رجب - أهم كاتب قصة ظهر في الإسكندرية، ومن أهم كتاب القصة القصيرة علي مستوي الوطن العربي كله. كان يقف مسندا ظهره علي جدار سينما ستراند، قريبا جدا من سلم النفق الذي أسسته عصا عبد اللطيف البغدادي السحرية، بإقامة نفق تحت ميدان المسلة، المعروف جماهيريا، باسم ميدان محطة الرمل. وقريبا جدا من باب سينما ستراند، وأمامه " بنيكة"(1) مغطاة بالزجاج من جهاتها الأربع، يظهر من خلال الزجاج الفستق، والسوداني واللب الذي يبيعه. لقد أختار محمد حافظ رجب أنسب الأماكن للبيع. فالجماهير التي تأتي إلي الميدان، إما للتنزه، أو للذهاب لعملها، أو لدخول السينمات الكثيرة فيها. تحرص علي السير في هذا الطريق، ويزداد الزحام في هذه المنطقة بالذات، لأنها المنحني الذي يوصلك لعمق الميدان، حيث محل " علي كيفك "، ومسرح تربيكو، ومحلات الهريسة المشهورة هناك، ثم سينما ريتس، وبعدها سينما فريال. وتحرص الجماهير علي الوصول للميدان، إما بعبور الشارع أمام سينما ريتس حيث يقف جندي المرور هناك، أو باستخدام السلم الكهربائي للنزول إلي النفق، الذي تحول إلي مجمع استهلاكي لبيع الخضراوات والفاكهة والبقالة واللحوم. يحكي محمد حافظ رجب، بأن الشرطة كانت تطارد الباعة الجائلين، وإن مخبرا بنقطة شرطة المسلة، جاء وقبض عليه، لم يستطع حافظ رجب الهروب منه، فالبنيكة الممتلئة بالفستق المرتفع الثمن؛ ثقيلة ولا يستطيع حملها والجري بها. أصر المخبر علي أن يحمل رجب البنيكة الثقيلة علي رأسه، ويعلق الحامل علي كتفه ويقوده حتي نقطة المسلة القريبة جدا من برج الثغر. هذه أزمة الباعة كل الباعة في هذا الميدان، أزمة قديمة جدا، ما أحكيه حدث أيام حكم جمال عبد الناصر، والمشكلة موجودة للآن، بل تأزمت وتعقدت أكثر. يحكي الكاتب الإنجليزي لورانس داريل في رائعته الروائية ( رباعية الإسكندرية ) عن محطة الرمل، فيقول إنها مكونة من أكواخ صفيح. كانت منطقة مهملة، قريبة جدا من (مسلة كليوباترا). وكانت ضاحية الرمل صحراء تنتشر فيها الكثبان الرملية المتصلة، وتتناثر فيها واحات صغيرة فقيرة يأوي إليها بعض الأعراب في مواسم الأمطار ثم ينتقلون نحو الجهات الرطبة الخضراء جنوبا بمديرية البحيرة بحثا عن مراع لأغنامهم. وقرية صغيرة تسمي " الرملة " ، يعمرها القليل من السكان. وعندما حدَّث الوالي سعيد المدينة لعشقه لها، فقد حكم مصر من خلالها، ( هو أول وآخر حاكم لمصر في العصر الحديث ، يتخذ من الإسكندرية عاصمة للبلاد) فقد ولد وعاش ومات فيها وتم دفنه في مسجد النبي دانيال الشهير بالإسكندرية. لذا كانت الإسكندرية كلها ملك حفيده عمر طوسون. حدَّث الوالي محمد سعيد المدينة، مما أدي إلي زحف العمران تدريجيا نحو الشرق فبدأت تلك القري الصغيرة في الالتحام بالمدينة الأصلية وضاحية الرمل، فأحس الحكام بحاجة منطقة الرمل إلي وسيلة انتقال تصل بهم إلي وسط المدينة، فكان الامتياز الذي تم منحه للسير إدوارد سان جون فيرمان في 16 أغسطس عام 1860م، لمد قضبان حديدية بجهة ( مسلة كليوباترا) محطة الرمل الحالية - لنقل المواطنين بقطار واحد من المسلة إلي محطة بولكلي، وبمرور الوقت تلاشي اسم المسلة، وعبر الناس عما يرونه أمامهم، بأن هذه المحطة، تنقل الركاب للرمل، فأصبحت محطة الرمل. ميدان محطة الرمل، هو أهم مكان في الإسكندرية علي الإطلاق. وقد كنا نحرص في بداية شبابنا علي الحضور إليه كل يوم تقريبا - نخرج من حينا في راغب باشا، ونصل إلي محطة مصر، ندخل شارع النبي دانيال، في أوله مدخل يصل بنا إلي الأرض الواسعة التي خلفها إزالة كوم الدكة - قبل اكتشاف المسرح الروماني- نجد أنفسنا في شارع صفية زغلول، في آخره محطة الرمل. هذه رحلة أهالي الإسكندرية، يأتون إلي محطة الرمل من كل مكان فيها. أسر كثيرة تحرص علي الذهاب إلي محطة الرمل للفسحة، تأتي مثلنا قريبا من محطة مصر، ويأتي الكثير من منطقة الرمل بركوب الترام. يشترون الفشار المشهور في الميدان، أو غزل البنات للأطفال، والجيلاتي، والسندوتشات. يقفون وسط الميدان، يتحدثون.. فهذا هو مكان الالتقاء، ومن خلاله يتحركون إما إلي السينمات الكثيرة هناك، أو إلي المقهي، أو حتي إلي أعمالهم. نجد هناك ترامين لونهما أزرق، خط رقم 1 آخره فيكتوريا عن طريق باكوس. وخط رقم 2 آخره أيضا فيكتوريا لكن عن طريق جليم. وبذلك تغطي ترام الرمل كل الأحياء هناك. وترام أخري لونها أصفر تبدأ من محطة الرمل وتنتهي في محطة رأس التين، وأحيانا تبدأ من محطة المطافي في المنشية وتنتهي في سيدي جابر. وإذا اسعدك الحظ، تجد ترام بكاتين ( دورين) فتصعد للدور العلوي، وتشاهد الإسكندرية من فوق. وقد حدثني عضو بارز في مجلس محلي مدينة الإسكندرية، بأن المحافظة تحرص علي وجود الترام أم كاتين، حتي لو كلفها هذا المبالغ الطائلة، فقد أصبحت الترام أم كاتين من معالم الإسكندرية التي تمتاز بها وحدها دون كل محافظات مصر. علاقتننا بباعة الكتب في مدينة الإسكندرية بالنسبة لنا نحن الكتاب، هناك ثلاثة أنواع لباعة الكتب في مدينة الإسكندرية: النوع الأول هم موظفو المكتبات الحكومية مثل فرع هيئة الكتاب، وفرع دار المعارف بشارع سعد زغلول. وهم يعرفوننا بالإسم، خاصة في فرع هيئة الكتاب، فالهيئة نشرت لنا الكثير من الكتب التي ترد إلي الفرع. كما أننا نحرص علي شراء كتبنا من الفرعين، الهيئة ودار المعارف. النوع الثاني هم باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال، وهم يتعاملون معنا بحب، فعندما أسير في الشارع، أحييهم، ويرفع بعضهم كتبي التي وردت إليهم عن طريق التجار الذين يشترونها من ربات البيوت، وأعطي تليفوني لهم، فأحيانا يسأل البعض عني أو عن كتبي، فقد كنت أسير مع صديق لي، واستوقفني أحدهم قائلا: جاءت فرنسية وسألت عن كتبك. فالمركز الفرنسي قريب جدا منهم، أو عندما اتصل بي أحدهم قائلا: - جاء بلال فضل يسأل عن كتبك عندي. النوع الثالث: هم باعة الكتب والمجلات في محطة الرمل، وعلاقتنا بهم قديمة جدا، فمازلت أذكر عم السيد عبده الذي كان رئيسا لنقابة باعة الصحف، والذي كان يحرص علي حضور لقاءات خالد محيي الدين السياسية، والذي ارتبطت علاقته بكل أدباء الإسكندرية، فقد علقت لافتة تعلن عن صدور كتابي الأول الصعود فوق جدار أملس بجوار فرش صحفه وكتبه ومجلاته. وهكذا فعل سعيد سالم عندما أصدر كتابه بوابة مورو. وبجوار عم السيد فرش الرملي، الذي ارتبطنا به وبابنه ممدوح، وبكل العاملين في فرش جرائده، وبعد صدور روايتي الجهيني، جاءني الصديق أحمد فضل شبلول في قصر ثقافة الحرية، قائلا: ممدوح الرملي بيقولك: جمال الغيطاني سأل عليك وعايز يقابلك، وهو نازل في فندق سويس كوتيش. وفعلا اتصلنا بالفندق، وحددنا موعدا مع جمال الغيطاني شفاه الله في أتينيوس، وقابلناه أنا ومحمد عبد الله عيسي وأحمد فضل شبلول، وقد قد قرأ روايتي الجهيني وأعجب بها. وكتب عنها في باب كان يصدر في جريدة الأخبار كل يوم خميس، بعنوان آخر الأسبوع ويشرف عليه الأستاذ أحمد الجندي. إنني أساسا ضعيف جدا أمام الكتب، واعتبرها من المقدسات، ومن معالم التقدم، ولا أستطيع احتمال إنسان يتعامل مع الكتب وكأنه يتعامل مع أحذية أو اي سلعة أخري، هذا ما أحسه إذا تصادم باعة الكتب القديمة في شارع النبي دانيال، مع الشرطة المعروفة باسم الإزالة، وهذا ما أحسه إذا حدث صدام مع باعة الجرائد والمجلات والكتب بميدان محطة الرمل. كنا نحضر ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية يوم الاثنين، عبد الله هاشم ورجب سعد السيد وسعيد بكر وأحمد حميدة ومحمد عبد الوارث وغيرهم، وبعدها لابد من الذهاب إلي محطة الرمل، لمتابعة الكتب والمجلات والجرائد، ونشتري ما يلزمنا، ويركب البعض الترام ليعود لبيته، ونسير معا حتي محطة مصر. لم أكن أعلم واعتقد أن الكثير لا يعلمون مثلي إن الميدان ليس تابعاً لمحافظة الإسكندرية، وإنما هو ملك هيئة النقل العام، المكان كله تابع لترام الرمل، وكل من يشغل محلا أو كشكشا أو فرشا لبيع الجرائد يسدد إيجاره لهيئة النقل العام. سيادة محافظ الإسكندرية قرر تطوير هذا الميدان الذي له صلة بالترام التي يعشقها، ولا أدري ما سر اهتمامه غير العادي بالترام. حتما في طفولته أشياء أدت إلي ذلك. المهم إن التطوير ستقوم به الجهة المالكة، وهي هيئة النقل العام التي أرسلت إنذارا إلي كل شاغلي الميدان، بأن يستعدوا لإخلائه وأعطوهم مهلة حتي يوم الأحد 8 أكتوبر 2015 لعمل التطوير فيه. وبالفعل تم إزالة الأكشاك، ومنها كشك لبيع الفشار يعتبر من معالم الميدان هناك. ينزل ركاب الترام، ويتزاحمون لشراء الفشار، وقد يحمله البعض ويركب الترام به. وحدثت اتهامات بين مؤجري الميدان وهيئة النقل العام التي تزعم إن باعة الجرائد لا يسددون الإيجارات المستحقة، وباعة الجرائد يردون بأن لديهم إيصالات تؤكد سدادهم لقيمة الإيجار. بل ويقول بعضهم بأن المشكلة بدأت منذ أن تولي اللواء خالد عليوة مسئولية رئاسة الهيئة العامة لنقل الركاب بمحافظة الإسكندرية، فطالبهم برفع قيمة الإيجار، فاشتكي البعض بأن بيع الجرائد لا تأتي بمبالغ كبيرة تمكنهم من سداد الإيجار الذي يريده، فقال لهم ما معناه، طيب ما تغيروا النشاط، بيعوا كشري أو كبدة. 1 بنيكة، تصغير كلمة بنك. وكلمة بنك أصلها هو الكلمة الايطالية "بانكو" و تعني المصطبة التي يجلس الصرافون لتحويل العملة، ثم تطور المعني ، إلي أن أصبح يعني المكان الذي توجد فيه المنضدة، وتجري فيه المتاجرة بالنقود, أما اصطلاحا فتعني هذه الكلمة المكان الذي يلتقي فيه العرض و الطلب علي النقود، أي تقبل الودائع بشتي أنواعها من الفئة ذات الفائض وإعادة استخدامها أو منحها في شكل قروض و سلفيات لفئات أخري ذات احتياج إلي الأموال. ومن هنا يظهر البنك كوسيط مالي يقوم بإعمال الوساطة غير المباشرةبين المقرضين و المقترضين.