«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوصايا
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 10 - 2015


الفكة
كنت عائداً من لجنة التصحيح بعد الحادية عشرة مساءً، عندما رأيت في وسط الشارع التجاري بالمدينة عربة يد، علي سطحها كوم من الموز، وقد جلس قبالتها شاب، وضع رجلاً فوق أخري، الشارع يتناوم والأرجل خفت، ولكن أين الرجل المجلبب الذي رأيته في مكان الشاب، في طريقي إلي اللجنة بعد الظهر، وقتها أرجأت الشراء، طبقاً للوصية الأولي التي وضعتها لشراء الموز. وهي ألا أشتريه والعربة ممتلئة به. فالبائع يتظاهر بإرضائك بقطع مشط من السباطة التي انتقيتها، ويده المحترفة لا توفي الميزان، حتي يلتقط بسرعة البرق إصبعاً مستوياً أكثر من اللازم، وآخر مخضراً، أو بعضاً من حجم صغير، يريد أن يخلص من الفرط الذي أمامه بسرعة، غير مبالٍ باحتجاجك .
أما الآن فقد بقيت عدة أمشاط، كأنها زبد مغلف بقشر رقيق أصفر غامق، به بقع بين البني والأسود. أخرجت ورقة بمئة جنيه، فقال الشاب:
- اتلمت العربة من الحاج منذ قليل، وليست عندي فكة .
أشرت إلي درج نصف مفتوح في صندوق صغير، أشبه بصندوق، ماسحي الأحذية، لمحت به فكة، وأضفت أنني سأخذ كيلوين لعل ستة عشر جنيهاً، تغريه، لكنه ردد عبارته السابقة بآلية. طافت عيناي، أبحث عن محل فاتح، لمحت صيدلية أسرعت إليها، محرجاً، وغير مستسيغ سلوك الشاب، بدا لي من لهجته، وبنطلونه وقميصه، أنه متعلم. أمثال أبيه - عادة وقد تعبوا من الوقفة طول النهار يسهلون البيع، وقد يها ودون في السعر، لينصرفوا مبكراً .
هز المستخدم خلف مكنة النقود رأسه نفياً، فأوشكت أن أشتري مالايبور عندي كالأسبرين والمكملات الغذائية، لكني عدلت، فلن يرضي المستخدم الحرج لنفسه.
مشيت عازماً الاستغناء عن الموز، وإن كنت سأفوت فرصة لا تسنح لي كثيراً. قصدت محل عصير قصب ما زال يعمل. وفي طريقي ترددت.. هل سيفك مئة جنيه من أجل جنيه ثمن كوب العصير..؟! كما أنني لا أود الشرب.. سكره الزائد سيحد من شهيتي علي العشاء، وقد يمنعني من تناول الموز .
ولو التمست الفكة في شارع آخر، قد أعود ولا أجد هذه الخلاصة التي تغري السائرين. خلاصة تشبه الموز ذات النقط البنية، التي كانت تطالعنا أشجاره بأوراقها العريضة، ورائحتها الزكية في أراضي طرح النهر، حين نتمشي علي شط النيل، ونلقي عربات اليد المحملة به، فور خروجنا من الجامع بعد صلاة الجمعة، أصابعه فائرة، مرملة، وقشرته مطاوعه، ولا تجد طرفاً في أي إصبع زاد نضجه وأصبح سوبيا، تميع النفس، وفي جوار هذه العربات أخري محملة بالموز المغربي، الإصبع في حجم إصبع ونصف من البلدي، ويشبعك وسكره ليس قاطعاً أيضاً، لكنه يفتقد مزازة البلدي، ويفوقه في السعر، فالكيلو باثني عشر قرشاً، أزيد بأربعة قروش. وكان أطفالي يسعدون عندما يحصلون في نصيبهم علي إصبعين ملتصقين في قشرة واحدة، كان دوماً عامراً بها، وكأنه إصبع واحد ، وكنا نسميه : الموز أبو روحين .
عرج بعض المارة علي العربة..
غيرت وجهتي وأنا أردد .. أحسن .. فالموز يسبب لي حساسية .
دهشة :
عندما طالعت علي ورقة في حجم الكف، أعلي عصا رفيعة مرشوقة في مقدمة عربة اليد، الثمن 500 وفوقها علامة القرش، اقتربت وطلبت كيلو، أشارت بنت دون العشرين إلي موز صغير مسود القشرة في جانب العربة، قائلة إن هذا بخمسة جنيهات، وأشارت إلي موز آخر في مؤخرة العربة، حجمه أكبر وقشرته صفراء، قائلة أن هذا بخمسة ونصف .
أعدت قراءة اللافتة، وجدت الصفر الذي يلي الخمسة مكتوباً علي هيئة دائرة صغيرة جداً. تفصد عرق أسفل رقبتي وأشرت إلي الموز الصغير.
نكست البنت رأسها، وذهبت كل عين إلي ناحية. واكتسي وجهها الداكن السمار باستغراب .
قطعت من ساق سباطة صغيرة، أصابع موز ذابلة الأطراف، وأضافت إصبعين مفروطين من العينة نفسها لتكمل الميزان.
نقدتها الثمن، وتراجعت عن إلقائه في الشارع كما نويت، حتي لا أطلق غضبها المكتوم، وحملته إلي البيت، وقد شفيت غليلي من كل بائعي الفاكهة. خاصة تلك المرأة التي جادلتها في الثمن المعلن بالطريقة نفسها، فرفضت البيع لي، ولدرء ما لحق بي من إهانة، وافقت علي السعر الذي أرادته، لكنها تمسكت بالرفض قائلة: روح أحسن لك .. الشمس حامية عليك .
وفي البيت عندما قشرت الموز، دهشت .. فلم يكن كما تصورت، طرياً من فرط النضج، وكان طعمه مقبولاً. ومع أني كنت مزهواً، لحرمانها من الطُّعم الذي تستدرج به الزبون لما تريد، إلا أن ضيقاً تسلل إلي نفسي، لمخالفتي وصيتي الثانية، ألا أقترب من عربة تعلن عن الثمن بهذه الطريقة، وحاولت التماس العذر، فلم أتحقق من اللافتة عن بعد .
عدم استئذان :
تحلقت نسوة حول عربة، بعضهن وضعن مناديل هفهافة حول رءوسهن، ومن بلوزاتهن ذات الألوان الصريحة، خمنت أنهن مدرسات في المدارس الابتدائية والإعدادية، التي يحفل بها هذا الشارع الرئيسي. أو لعلهن موظفات في طريقهن إلي بيوتهن، يحملن سلالاً بلاستيكية بها خضر وخبز .
عزمت علي شراء كيلو جرامين، ورجل في الثلاثين تقريباً، يقف أمام عربته حيناً، وفي الجنب حيناً، يتأمل بضاعته، قبل أن ينتش حذراً، بسكينه نصف الدائري، كالشقرف، ساق السباطة، فتأتي قطعتيه مناسبة لطبة الميزان. وقد يضع مشط القطعية الأولي علي كفة الميزان وهو يسأل من طلبت كيلو جرامين أن يزيد نصف كيلو، وتدفع خمسة عشر جنيهاً. وحين تأتيه الموافقة يلف لها الموز في ورقة جرائد .
طلبت كيلو جرامين، وناولته خمسة عشر جنيها. أخذت مالفه وانتظرت ..
لبي طلباً لهذه وآخر لتلك، دون أن ينظر ناحيتي. ولما ظللت واقفاً، قال ببرود :
- خلاص .
كان هاجس قد حرك بوادر غضبي، مالبث أن زاد بعد تصريحه، وقد ضاقت نفسي لأنه لم يستأذنني .
هل آمره بشيل نصف كيلو .. ؟!
سيكون رده السمج حاضراً: موز شهد لا يعرف قيمته إلا مثلك .
وسأضطر للانصراف مغلوباً علي أمري، فليس معقولاً أن أصر، من أجل ثلاثة جنيهات لا قيمة لها .
وأخذت أبرر فعلته..؟!.. هل لحظ أن سحنتي مختلفة، عن سحن ساكنات مجاهل أفريقيا، كما كنت أطلق علي حاراتهن المتفرعة من هذا الشارع .. ؟! أم قدر من هندامي أن مثلي لن يرد له طلباً، فآثر عدم السؤال .. ؟!
أم ظنني لمحت ما وضعه من سنج علي كفة الميزان، وعَّد عدم اعتراضي موافقة علي ما فعل .. ؟!
هل ألقي الموز في وجهه الذي بدا بلون المعسل، وأغور من نظراته اللزجة كالبقايا التي يخلفها التدخين .
كظمت غيظي، قدمت رجلاً، تبعتها بأخري، ومهما كان منظر الموز يشرح القلب، فلن أغفر لنفسي مخالفتي وصيتي الثالثة، ألا أشتري من شباب المدينة، وإن كان الفلاحون قد تملعنوا أيضاً، ولكنهم أرحم .
عين خابية :
كنت عائداً من تصحيح مادتي في الثانوية العامة، مرهقاً، يكاد الليل ينتصف، وقد خلا الشارع الرئيسي الذي أسلكه دوماً، من المارة إلا قليلاً. وهو يقف بعربته. لمحت السعر المعلن في مقدمة العربة، وأشرت بسبابتي ما يعني واحداً.
دار بنظره يفحص صحن العربة، أمسك قطعة من سباطة، وتركها. وزن بنظره أخري.. وأخري.. حتي توصل إلي ما اعتقده يفي بالغرض وألقمه كفة الميزان .
بانت لي ملامحه الصعيدية. وعندما صاح بامرأته أن تأتي بأربعة جنيهات ونصف، بينما أستحق خمسة، لم أجد في نفسي قدرة علي تنبيهه، وعاودت النظر إلي اللافتة، بعينين خابيتين، وكانت العشرة جنيهات في يده، ولم ألتم علي الفكة. وعندما أخذتها تحركت قدماي كالمنوم مغنطيسياً، لا تغادرني نظرة الفرح من عيني زوجته ولهفتها وهي تستجيب: حاضر .. حاضر يا خويا .
في البيت وقد استرددت نفسي ، لم أوبخها، فلم أخالف أية وصية، فهذه حالة طارئة، ربما يكفي وضع تحذير للتعامل مستقبلاً .
غباء :
كنت متفائلاً دون سبب، وقادني تفاؤلي إلي عربة موز، علي الناصية لبائع الجرائد الذي أتعامل معه، مخالفاً وصيتين مرة واحدة .
لم أكد أشير بإصبعي، حتي قفز شاب كفرقع لوز، في جوانب العربة، يرتدي بنطلون جينز، ويعلق في حزامه الجلدي سلسلة مفاتيح وتليفوناً. يفرق شعره من المنتصف، تساعده نحافته وقصر قامته، علي التنقل السريع .
التقط إصبعين فيهما الرمق ووضعهما علي كفة الميزان، وبخفة نشل عدة أصابع معلقة في زنبوخ أخضر وأضافها، ونظر يميناً وشمالاً، كأنما فاته شيء، وألقي بعدة أصابع سوداء القشرة، طببت الميزان.
- غيرَّ هذه ..
لبي بسرعة، واستبدل بالسوداء، أخري يمكن قبولها بلجنة رأفة. وبش في وجهي قائلاً :
- لن أبيع لأعز منك .
خجلت من طلب التغيير ثانية، وحملت ما أعطانيه في كيس بلاستيكي، أوشكت أن أتركه ليعطيه لأي غلبان مار، لكني غادرت ناوياً ألا أشتري منه ثانية، وقد ضايقني ظني.. هل قلل من شأني لأني اشتريت كيلو جراماً فقط، أم عدَّني عجوزاً ولا بأس من استغفاله .. ؟!
سرت وقد لاح لي وجه زوجتي الممتعضة حين تري ما أحضرته، وسوف تنعتني بالخيبة، كما تفعل أحياناً، عندما أشتري فاكهة.
وسأرد .. المهم الطعم . وهل لما حملته طعم .. ؟!
وستقول .. ألا تدعي أنه يسبب لك صداعاً وهرشاً .
وسأعيد عليها للمرة الألف .. به بوتاسيوم .. وهو مهم للجسم. وسترد .. وهل هذا يبرر نهمك له .
وسوف تعايرني.. بدلاً من هذا .. كنت اشتريت ما طلبته لعمل السلاطة. وسأقطع استمرارها في التعريض بي، بمحاولة التضاحك قائلاً.. عيب عليك يا فلفل تباع بسبعة جنيهات.. واختشي علي دمك يا قوطة ولا تباعي بثمانية جنيهات.. هل يصح هذا، والموز عمكما يباع بخمسة جنيهات .. ؟!
وبينما أعد نفسي لأتلقي وعدي، سخطت علي البائع. وبعدما مشيت عدة خطوات استدركت.. ربما لو كنت مكانه لفعلت مثله، وإلا أين سيودي ببضاعته غير المقبولة .. ؟!
آي نعم .. لكن ليس هكذا. كل مشترٍ يضع له إصبعاً أو اثنين ، عندها لن يتذمر أو يشكو، أما أن يبيع الطالح كله لزبون واحد.. فهذا هو الغباء بعينه .
لست غريباً :
ناولته ورقة بعشرة جنيهات. دس يده في جيبه وتلكأ فتوجست . التفت إلي صديقي الذي أقلني في عربته، كان يشتري برتقالاً من بائع آخر. كدت أسأله متي سيذهب إلي الإدارة، وكثيراً ما فعلتها بتشجيع منه ونحن نستقل عربات الأجرة في العاصمة، تنفرج أسارير السائق ظاناً أنه التقطها وهي طائرة وصديقي يرد أنه أطلق سراح مخالفي المرور، مراعياً زحام الشوارع وسط البلد، يدعو السائق له ويرجو الله أن يكثر من أمثاله، ويوصلنا أمام باب البيت الذي نقصده بالضبط ويصر صديقي علي دفع الأجرة، التي لا يغالي فيها السائق بطبيعة الحال. عزفت عن السؤال، حتي لا يقترب ويكشفني، فقد اشتريت كيلو موز واحداً، لفه البائع في ورقة جريدة، ووضعها في كيس بلاستيكي .
تعجلت طلب الباقي، فأعطاني بعد لأي ثلاثة جنيها، فأشرت إلي اللافتة مكتوباً عليها ستة جنيهات، رشقتني عيناه الترابيتان، بأشواك من وبر الخيش، ومن حنجرة من الحجر الجيري المطفأ جاءتني عبارته "هو كده" .
ومنعني خجلي أن أستجير بصديقي، سعادة البك الواقف بقرب عربته السوداء، الذي سرعان ما سيلتقط مني الخيط، ونتبادل نسجه حول ابن الحرام، بسحنته الغبراء المبطعة بأحمر طوبي، وشعره القصير الخشن، يرتدي بنطلوناً محزقاً وقميصاً باهت اللون .
وندمت علي سؤاله عن أقرب طريق للمستشفي الخاص الذي نقصده في طرف المدينة، هل أقذف بالكيس أرضاً، هل أقلب العربة بما عليها .. ؟!
وعذرت نفسي حتي لا أؤنبها لمخالفة إحدي وصاياي، فلم أجد بائعاً سواه.. وليس معقولاً أن أعود إلي داخل المدينة وقد أوشكت علي الوصول لكن مالا أغفره.. سؤاله قبل إنهاء مهمتي معه .
ووجدتني أقول في غيظ "لا تفعلها ثانية"، وأنا أسرع إلي صديقي الذي أدار عربته ، سأسبقه إلي حمل الفاكهة، غير آبه باعتراضه فلا فرق بيننا، وعليه فقط السؤال في الاستعلامات عن موقع ورقم الحجرة ، ويتقدمني في المسير إليه، وفي الحجرة سأضع ما أحمله فوق أول كرسي أو ترابيزة أصادفها .
انتشاء :
نظرت في ساعتي. نصف ساعة تفصلنا عن منتصف الليل. وقد هلت عربات نصف نقل محملة بالموز إلي الميدان الذي أعبره إلي شارع متفرع منه حيث بيتي .
لماذا لم ينتظروا حتي الصباح .. ؟!
واضح أنهم جاءوا من المزارع، وليسوا مثل مؤجري المحال هنا، الذين يرصون فيها الموز الأخضر فوق قش أو نشارة خشبية، حتي ينضج. وقد لحظت أنهم أحياناً يبيعونه قبل الأوان .
وغير بعيد عن هذه العربات، لمحت عربة يد محملة بموز أعجبني منظره .
- كيلو
نهض عن كرسيه، فبانت قامته متوسطة. وجهه مشدود الجلد. وتطلع نحوي بعينين غير متسعتين، جفونهما بيضاء، كجفون العاملين في معامل التخليل .
نظرت إلي ما وضعه في كفة الميزان، مشط كبير يزن ما يقرب من ثلاثة كيلو جرامات.
وصدق ما توقعته، حين قرأت ما علي السنجة في الكفة الأخري .
- كيلو فقط .
أكمل الوزن بأصابع اقتطعها بسكينه من مشط آخر .
- كيلو فقط .
التقط فرخاً من جرائد قديمة في مقدمة العربة، وشرع في نقل الموز إليه .
- قلت لك كيلو ..
وأدرت وجهي لأنصرف .
بعينين ميتتين تطلع إلي . حركت إحدي قدمي وأنذرته :
- ها .. ؟!
أنزل السنجة ، ووضع أخري بوزن كيلو جرامين .
- كيلو يعني كيلو ..
وخطوت وقد تضاعف وخزي علي مخالفتي إحدي وصاياي، عندما جاءني صوته شاكياً :
- يظن الزبون أننا نمد يدنا في جيبه .. !
تطلعت إليه .. ماذا سأفعل بكمية كبيرة ، ولا يوجد سواي والحاجة، وهي عندها سكر ولن تأكل أكثر من إصبعين، وأنا بالكثير ثلاثة أو أربعة أصابع، وفي اليوم التالي سيسود الموز الباقي، وبعضه قد يصبح لزجاً، تجزع منه النفس.
خطوت خطوتين ونظرت ..
تناول سكينه علي مضض وقسم المشط
نقدته الثمن ، وسرت منتشياً .
حرية :
انصرفت اليوم من اللجنة في العاشرة مساءً، لفت نظري موز مرصوص علي مدرج خشبي . جاء رجل مجلبب من داخل المحل، مهوش شعر رأسه الخفيف، جسده مستطيل مدكوك، وجلده أسمر مشوب بحمرة.
- بكم .. ؟!
- سبعة جنيهات .
- الكيلو بستة في الدنيا كلها .
أشار لعربات تقف في الميدان القريب وقال :
- هات منها .
- موزك أعجبني .
افتر فمه عن مشروع ابتسامة، خففت من انطفاء سحنته، التي بدا أنها لم تغسل منذ أسبوع .
- كيلو ونصف بعشرة جنيهات .
- كيلو فقط .
ونظر إلي بعينين زلاليتي البياض، فنويت الانصراف، متجنباً مخالفة وصيتي بعدم شراء فاكهة من محل .
- معك فكة
قلت في ضيق .
- لا أريد
قال في سماجة :
- أنت حر .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.