تستكمل أخبار الأدب في هذا العدد، ولأسابيع قادمة ملف الترجمة، طرح قضاياها ومشاكلها والحلول المقترحة للنهوض بها، وأثناء ذلك ستسلط الضوء علي المترجمين الشبان البارزين الذين يسعون لتقديم الثقافات الأجنبية باللغة العربية، وساهموا في ذلك بعدد من الكتب. لقد أصبح طارئًا للنهوض بالثقافة المصرية الالتفات بجد لعملية الترجمة، بدايًة من اختيار الكتاب ومرورًا بترجمته ونشره حتي توصيله ليد القاريء. ولأن المترجم عمود رئيسي في هذه العملية، إذ أنه منتج للمعرفة أيضًا، سيتركز الملف علي الأزمات والعقبات التي يواجهها، عبر أسئلة وحوارات موجهة لمسؤولين ثقافيين ولمترجمين، آملين أن نتوصل بذلك للب الأزمة، وتقديم حلول منطقية لها من خلال العاملين بهذه المهنة وفي هذا العدد نتساءل أين يذهب خريجو أقسام اللغات؟. فتحنا الأسبوع الماضي ملف الترجمة. أوضحنا قدر العشوائية التي تسود العملية بالكامل، فلا ببلوجرافيا للكتب المترجمة أو للمترجمين في اللغات المختلفة، ولا تنسيق بين مختلف جهات الترجمة سواء في مصر أو خارجها، والكل يعمل في جزر منعزلة بلا رؤية ولا إستراتيجية واضحة للجميع. هذا الأسبوع نرجع خطوة للوراء، نبحث في بدايات العملية، نبحث عن خريجي أقسام اللغات وكلية الألسن من مجال الترجمة الأدبية..أين هم وماذا يفعلون؟ فمعظم من يعملون في هذا المجال لم يدرسوا الترجمة بشكل أكاديمي، وإنما خريجو كليات أخري مختلفة، ولذلك حاولنا أن نعرف الإجابة من خلال الاقتراب من بعض هؤلاء الطلاب، والأساتذة أيضا. إيهاب محمود الحضري، تخرج حديثا في قسم اللغة الإيطالية بكلية الألسن، يعمل بالصحافة منذ ثلاث سنوات حينما التحق بالدراسة في الجامعة، يجد أنه من غير المناسب لشاب يتخرج في الجامعة عمره 22 عاما أن يعمل بالترجمة، حيث أن التعامل يكون بالورقة، التي يتراوح عدد كلماتها ما بين 250 إلي 400 كلمة وتستغرق في أفضل الحالات يوما كاملا لترجمتها، فالترجمة أسلوب وثقافة وليست فقط كلمات، أما المقابل في النهاية فيكون 10 جنيهات؛ أي 300 أو 400 جنيه شهريا » هذا لا يكفي ثمن المواصلات، لذلك يتجه معظم الخريجين للعمل في مرسي علم وشرم الشيخ كموظفين استقبال، فحتي العمل في الإرشاد السياحي لم يعد متاحا، لأن السياحة لم تعد موجودة«. وبهذا فإن المتاح هو العمل في خدمة العملاء ومراكز الاتصالات، الترجمة حقا وضع اجتماعي متميز كما يقول لكنها لا تصلح لبناء مستقبل، كما أن نقابة المترجمين تشبه نقابة الصحفيين الإلكترونيين، ليست مهنية، ولا يعتد بها أو تبحث عن أي حقوق، اضافة الي أن المسئولين في المركز القومي للترجمة لا يحضرون إلي الكلية ليتحدثوا مثلا مع رؤساء الأقسام لاختيار طلبة جيدين وعمل عقود لهم، وإنما لا نعرف من أين يأتون بمترجميهم، فنجد في النهاية مطبوعات ليس لها أي أهمية ولا يشتريها أحد، لأن مستوي الترجمة في غاية السوء، فقد أحضرت مؤخرا رواية لتشارلز ديكنز وأغلقتها بعد عشر صفحات، لم أستطع استكمالها«. أما عن دور الجامعة فيقول عنه: » عندما يكون هناك دكتور متعاون يمكن أن يسهل لطالب جيد فرصة الحصول علي تدريب في بازار سياحي بالهرم أو خارج القاهرة، بحيث يتعامل مع سائحين فيكتسب لغة بشكل أكبر ويحسن من النطق لديه، في حين أن الأساتذة يعملون في الترجمة نتيجة لكونهم أعضاء هيئة تدريس بالجامعة، حيث يتم اعتمادهم في السفارة الإيطالية والخارجية، لكن كطلاب عاديين لا تتوافر لنا تلك الفرص، كما أن مكاتب الترجمة مرتباتها ضعيفة«. يكتب الحضري الشعر والقصة والمقال، ويعترف أن فكرة الصحافة تستهويه أكثر من الترجمة، وأن قرار التحاقه بقسم اللغة الإيطالية في كلية الألسن كان خاطئا، فقد أدرك فيما بعد أن اللغة الإنجليزية أفضل في كل الحالات وبشكل عام: » أمريكا هي من تحكم العالم ولغتها هي السائدة، ولكن مشكلة الترجمة أساسا تكمن في ضعف المقابل المادي وأيضا السوق المهني، فمهما بلغ طموح المترجم لن يستطيع تحمل الوضع بهذا الشكل، فإن عمل بالترجمة لن يتمكن من استكمال الشهر دون مساعدة من أهله ومن الدفعة نفسها، تخرج إسلام عاطف، ولكنه لم يعمل بعد؛ مازال في انتظار أن ينهي أمر الجيش، ولم يقرر المجال الذي سيعمل فيه أيضا، لكنه رأي كثيرين من زملائه التحقوا بالعمل في مكاتب ترجمة: » لا أفضل الترجمة الأدبية منذ الدراسة، ولذلك لن أفكر في العمل بها، وأثناء فترة الجامعة كنا نعتمد فقط علي أنفسنا، الأساتذة يعطوننا أفكارا صغيرة، أما من يريد الاستزادة فليفعل ذلك بمفرده«. وعلي العكس يأتي محمد خميس الحاوي، الذي تخرج من قسم اللغة الإنجليزية بكلية الألسن، ولكنه شاعر، يحب اللغة العربية ويتقنها مع الإنجليزية، ورغم ذلك فهو لا يعمل كذلك في الترجمة الأدبية أو غيرها، عمله لا يبتعد عن اللغة بشكل عام، ولكنه يستخدمها في التعامل مع العملاء البريطانيين في إحدي شركات الاتصالات، بينما تقتصر الترجمة علي العمل الخاص، فيترجم أعمالا فردية: «الترجمة الأدبية لها جمهورها الخاص، ولذلك أي ترجمة أقوم بها لا تكون بشكل تجاري وإنما أدبي بحت، يكاد يقارب التأليف، وأتذكر في إحدي ندوات الكلية كان يحضرها شيخ المترجمين العرب محمد عناني، ألقيت في إحدي الفقرات قصيدة لشكسبير باللغة العربية تكاد تماهي قصائد عنترة أو المتنبي، أعجب جدا بها وطلب أن أتصل به أو أذهب إليه المكتب، هذه شهادة هامة جدا في حقي، خاصة وأن ترجمة الشعر مهمة عسيرة، كما تواجد في هذه الندوة أيضا الدكتور شكري مجاهد مدير المركز القومي للترجمة، وفوجئت به بعد الانتهاء يخبرني عن تأكده من أنني شاعر في الأصل، وكان سعيدا بمستوي اللغة والترجمة، طلب مني أن أكون معهم في العدد الجديد من ترجمات المركز القومي للترجمة، ولكن للأسف الشديد التزامي بعملي لم يمكنني من ذلك«. ويستكمل الحاوي: » تكمن مشكلة الترجمة الأدبية في ندرتها وندرة الطلب بهذا المجال رغم ثرائه، فلو حظي بالاهتمام مثل الترجمات الأخري كالسياسية والقانونية سيصبح علي رأسهم، لأن الترجمات الأخري تكاد تكون حرفية، أما الأدبية تختلف، وأول مشكلة قد يقابلها المترجم هي فهم النص وتحليله قبل ترجمته، فالمترجم لابد أن يكون علي قدر من المعرفة الثقافية وليست مهارات الترجمة فقط، والمعرفة النظرية ليست هي كل الارتكاز؛ بل مدي المعرفة باللغة المصدر واللغة الهدف، فالترجمة الأدبية تشبه بحر الرمال، تضم كثير من الألغاز وكل كلمة فيها تحمل أكثر من معني، ولذلك لابد من التدقيق لمعرفة مقاصد الكلمات، ولابد من توافر معرفات شتي للمترجم، وأن يكون علي مستوي المفردات ومنظما«. بينما محمد سعيد، دارس الإيطالية، يترجم بعض المقالات في المنزل، يحلم بأن يعمل في الترجمة كمترجم بمجال السياسة أو الاقتصاد، كما أنه علي استعداد بالبدء من المجال الأدبي: «إن وجدت أنه يمكنني إتقان الترجمة الأدبية جيدا سأكمل فيها، فأثناء الدراسة كان تقديري فيها دائما جيد جدا وامتياز، ولكن للأسف الكلية لم توفر لنا التدريب في أماكن أخري أو ترشدنا، كنا فقط نقوم بالترجمة وبعد يومين يراجعها الدكتور ويصحح الأخطاء لكل منا، ثم يطرح الحلول الأفضل« ومن هذا المنطلق، يري د.محسن فرجاني، الأستاذ بقسم اللغة الصينية في كلية الألسن؛ أن أصل الإشكالية هي المناهج الدراسية بأقسام اللغات، التي تعطي اعتبار كبير جدا للتأهيل الفني للطالب والاستغراق في التخصص بدرجة عالية جدا: »الألسن منذ أن تحولت من مشروع ومدرسة للترجمة إلي مؤسسة تعليم لغات وهي تركز علي الجوانب الفنية للغة، وكيفية تأهيل الطالب لاتقان وإجادة اللغة الأجنبية كأداة فنية لممارسة دور فاعل في الحياة العملية، ولأننا كنا لفترة طويلة جزء من مستعمرات الدول الغربية، كانت اللغات الأوروبية أدوات مهمة في الاتصال بالمهيمن، وكان دارس اللغة الأجنبية يكتسب دوره ليس فقط كمترجم ولكن باعتباره موظف في إدارة علاقات عامة بين الدولة والخطاب الأجنبي، ولا يزيد دوره عن كونه ناقل للغة، وللأسف الشديد لم تستطع الألسن؛ وأظن بقية أقسام اللغات في الجامعات المصرية أن تخرج دارسا للغة يمارس دوره بالمعني الفاعل، المطلع علي الثقافة والذي يمارس دور إيجابي بين أطراف بالضرورة في حاجة إلي التفاهم، فأصداء الحركة الوطنية في مصر لم تصل لأقسام اللغات وانحصرت المؤسسات التعليمية بمصر في الأداء البيروقراطي، لم تتمكن من تأهيل مترجم يعي دوره وأهميته ككيان ناقد وليس فقط ناقل للثقافة الأجنبية، فهو وضع تراكم ولم يتحرك، فمناهج التعليم في الألسن تخلو من دراسة الثقافات الأجنبية«. ويستطرد فرجاني» قد أفهم أن اللغات الأجنبية تؤهل الطالب لامتلاك الأدوات والمهارات اللغوية العادية، فماذا عن الثقافة؟! باعتبار أن الثقافة الأوروبية حاضرة في المشهد بقوة ويمكن للطالب أن يتعرف عليها من خلال وسائل الإعلام كالقنوات والصحف، وخاصة في لغات كالصينية واليابانية والكورية والروسية، فنحن كمترجمين نفاجئ أحيانا بأنه يلزمنا مراجعة معارفنا الثقافية عن المجتمعات لأنها موجودة في نصوص أدبية، بل والعلمية أيضا، لكن للأسف المناهج الدراسية تخلو تماما من ذلك، فالطلبة يدرسون الترجمة بمنظورها القديم بأنها معالجة أدبية بينية، والنص باعتباره تشكيل بلاغي أو نحوي ومجرد مفردات وتساؤل معجمي عليهم أن يجيبوه، ومن هنا نجد محصلة هذا المحتوي العلمي أن الطالب لا يندمج بعد تخرجه في الحياة الأدبية، فليس له أن يتفهم طبيعة دوره كوسيط بين ثقافات وليس بين متحدثي لغات، وأي زائر لكلية الألسن يمكنه أن يلاحظ من عناوين الندوات التي تعقد أنها حريصة علي التأهيل الحرفي والمهني للدارسين أكثر منها لإعدادهم كممارسين اجتماعيين للنشاط اللغوي أو كمؤهلين لإدارة حوار ثقافي أو كمبدعين أو كوسطاء في حركة التبادل الأدبي، المنهج في الألسن هو المسئول عن ذلك«. رغم ذلك، يؤكد د.محسن أن كون المحتوي العلمي والدراسي والإستراتيجية العامة لأداء أقسام اللغات مقصرة، لا يمنع ذلك من وجود استثناءات:» ما أقوله ليس حكما علي الإطلاق، وإلا كيف نفسر ظهور مترجمين من خريجي الألسن لهم دور فاعل في الحياة الثقافية علي مر التاريخ، لهم بالفعل مدارس وتلاميذ من العاملين في الحقل الأدبي، هي استثناءات محدودة ونادرة ولكنها موجودة وبارزة، فقط كنا نأمل أن يكون ذلك بشكل ممنهج وليس متروكا للحظ الطيب، بينما تبقي الأزمة الأكبر التي أخاف منها هي المفهوم السحري الشيطاني الذي تسرب للمجال التعليمي الجامعي في مصر، وأصبح يطرح بقوة الآن باعتباره الحل السحري لأزمة التعليم بمصر، وهو ربط المناهج التعليمية بسوق العمل، لا أعلم كيف تحولت الجامعات المصرية من مراكز لاستشراف المستقبل إلي مجرد ذيل تابع للانتهازية والمؤامرات الاقتصادية، وبالتالي تردت أحوالها ودورها الثقافي، فكلية الألسن نفسها تضم غرفة تسمي رفاعة، عبارة عن مكتب تجاري يوفر ترجمات بالقطعة يترجمها أساتذة للعاملين في الحقل الاقتصادي، في حين أنه ليس من ضمن عملها علي حد علمي أن تقترح كتب للترجمة مثلا«. وإلي جانب كل ذلك التردي في مجال الترجمة الأدبية وقلة الحافز المالي والمعنوي مما يسهم بشكل أو بآخر في التقاعس عن إعداد المترجم الأدبي، يضيف فرجاني: » هناك تواطؤ من الجميع علي وأد حركة الترجمة، بتجاهلها التام من ناحية، وبإظهارها بشكل سخيف من ناحية أخري، سواء من داخل المؤسسة التعليمية أو من وزارة الثقافة التي كنا نأمل فيها أن تكون مشروع بديل وأن تستكمل النقص الموجود في المؤسسة العلمية، باعتبارها أكثر وعيا وبها قامات ثقافية وذخيرة حية من العاملين في الحقل الأدبي، فلابد لها أن تشارك في إعداد مترجمين باعتبارهم جزء من بنيان كبير اسمه صناعة النشر، وكأفراد واعين يبدأ دورهم عند اختيار النص قبل ترجمته، فالدور المهم في الترجمة يأتي من خارج الأكاديميين ومن خارج المؤهلين أكاديميا للترجمة، ربما لأن ظروف تشكيل مواهبهم ساهمت بدور كبير في أن تلحقهم بالساحة الأدبية في فترة مبكرة، وأنهم ذهبوا للترجمة ممسوسين بشيطان الإبداع أكثر منهم مسوقين في رغبة الأداء الدراسي العملي، فلم يذهبوا بمجاميع الثانوية العامة وإنما مهمومين بالأدب والكتابة قبل أن يكونوا دارسين للغة«. بينما يعدد د.حسين محمود، أستاذ الأدب الإيطالي بكلية الآداب جامعة حلوان، أسباب مختلفة، ولكنه يرجعها جميعا في النهاية إلي عدم وجود نقابة تنظم حركة الترجمة وتضمن حقوق المترجمين: «الفرق بين الترجمة الأدبية والترجمات التجارية حوالي خمسة أضعاف الأجر، فمن يريد أن يعيش من خلال الترجمة وامتهانها لا يمكنه الاعتماد علي الترجمات الأدبية، لأن هذا يعني الجوع، فالصفحة لا يزيد ثمنها عن 20 جنيها وفي اللغات النادرة 30، والحصول عليهم يكون بصعوبة أيضا، إلي جانب أن أغلب الناشرين لا يسددون أتعاب الترجمة، بخلاف المؤسسات الحكومية كالمركز القومي للترجمة والهيئة العامة للكتاب ولكن مقابلها ضعيف». رغم ذلك هو لا يجد أفضل أو أنسب من خريج اللغات والترجمة لهذا المجال، لأنه يمتلك أدوات الترجمة الصحيحة المضبوطة، والمعرفة والمهارات والتكنيك: » في برامج اللغات بكليات الآداب والألسن، تبدأ برامجنا من اللغة ثم الأدب ثم الترجمة، وفي الأدب يدرس الطالب تاريخ الدولة بالكامل الخاصة تلك صاحبة اللغة، فلو تم مقارنة دارس هذا المنهج مع آخر تخرج من حقوق مثلا ولكنه كاتب جيد، نجد أن من يملك أدوات أفضل هو الذي درس بمنهجية، إلي جانب أن ترجمة الأدب فيها خدعة، بأن يكون أسلوب المترجم جميلا، فذلك يعني أن جميع الأدباء بالنسبة له واحد، لأنه قلم واحد يعبر عن كل الأدباء بأطيافهم وتنويعاتهم، سيترجم لكاتب عبثي مثل آخر كلاسيكي، فهذا مترجم خادع، ومن يستطيع التفريق هو الدارس الذي يعي مسألة المقام اللغوي« ويستطرد د.حسين: » طالما ليست هناك نقابة أو جدول أو هيئة تنظم عمل الترجمة والمترجمين، ستظل تلك الظاهرة من العزوف متفشية ومنتشرة، فلا يمكننا حصر الاحتياجات من الترجمة ولا تنظيم عمل المترجمين، والأهم من ذلك ضمان حقوقهم، فمن تجربة شخصية مثلا، قمت بترجمة كتاب هام وطويل ومعقد، واستغرقت فيه عاما ونصف، حصلت علي مكافأة بعد الانتهاء من المركز القومي للترجمة حوالي 2200 جنيها، لم يكفوا سوي لقضاء ليلتين سياحة بفندق في الإسكندرية، فالوضع مزري، والمترجمين يريدون المجال الأدبي؛ لكنه لا يصلح كمهنة!«.