ليس من السهل علي الكاتب أن يخلق موضوعاً لقصته فقد تعصاه الأفكار أحياناً.. ولكنها قد تأتيه عفواً في أحيان أخري دون أن يشعر. تذكرت صديقي فوزي عندما كنت أتصفح عدداً قديماً من مجلة المصور واتأمل في الصور المرسومة فيها عن معرض الفنون الجميلة وبينها صور رسوم بديعة هي آيات في الفن. ولم يسعدني حظي بزيارة المعرض في حينه فاكتفيت بأن أري معروضاته في المصور.. وما لبثت أن رأيت نفسي أحدق باعجاب واندهاش في رسم امرأة بلغ فيها راسمها الدرجة القصوي، من الاتقان والاجادة. وسقط بصري علي اسم الراسم في أسفل الصورة وما كدت اقرأ كلمة »فوزي« حتي عادت إلي ذهني ذكريات صداقتنا القديمة وأيام طفولتنا الأولي حين كنا نحس أنفسنا أسعد الناس بما تصدره لنا أحلام الصبا من الآمال الواسعة والأماني اللذيذة. وأدركت أنني أخطأت في قطع ما اتصل بيني وبين هذا الصديق القديم. عشر سنوات لم أره فيها ولو أني كنت أعرف أنه شغف بالرسم ونبغ فيه وأصبح معدوداً من رجال الفن العباقرة. وهكذا رأيت نفسي بعد هنيهة ممتطياً سيارة تقودني إلي منزل فوزي. ليس بين الحجرات في العالم حجرة أقل نظاماً وأكثر فوضي من حجرات الرسامين.. وليس بين حجرات الرسامين في أنحاء العالم حجرة لا تستطيع أن تخطو فيها خطوة واحدة إلا إذا رفعت ساقك وتخطيت الأكداس المكدسة فيها من الألواح والأواني والمقاعد الصغيرة والرسوم مثل حجرة فوزي. ولذلك كان أول ما قلته له بعد التحية أن أظهرت امتعاضي من هذه الفوضي في ترتيب أثاث الحجرة التي اتخذها فوزي معملاً للتصوير. ولكنه أجابني بمحاضرة طويلة خرجت منها بأنه يري أن النظام في عدم النظام.. والذوق الحسن في عدم تكلف الذوق. ومع أن الحجرة كانت حاشدة بأنواع الألواح والرسوم فإن نظري اتجه علي الرغم مني إلي ذلك الرسم الكبير الذي رأيت صورته في المصور.. رسم تلك المرأة الفاتنة العجيبة الجمال. وراح فوزي يحدثني عن جهاده. .... ونسي نفسه واتجه نحوها.. وما عرضت له في حياته الفنية من عقبات وعراقيل.. وراح يقص علي رسومه التي رسمها وأودعها سر فنه وروحه فلم يجد من يشتريها منه الا بقروش معدودة، وأخيراً.. أخيراً أثمر جهاده الطويل واخرج للناس تلك الصورة التي كانت خير ما حواه المعرض، والتي رفعت اسمه إلي مصاف كبار الرسامين والتي حاولت الحكومة أن تشتريها منه بمبلغ طائل فأبي الا أن يحفظها لنفسه. وقال: »الآن وقد عملت اسمي .. فان أي نبش أنبشه بريشتي علي اللوحة يأتيني بثمن كبير ، فان الناس اذا اشتروا الصورة لا ينظرون إليها بل ينظرون إلي اسم راسمها«. ولم يدع لي فرصة للكلام.. فقد كان علي سابق عهده يسترسل في الحديث دون أن يعبأ إذا كنت مصغياً إليه أو معرضاً عنه.. فهو يريد أن يتكلم.. وينفذ ارادته علي الرغم منك. وبعد أن تكلم ساعة طويلة ختم حديثه بسؤال وجهه لي فترك لي مجالا للكلام. قال: «وهكذا تراني الآن والحمد لله موفقا في عملي.. فهل أنت موفق أيضا؟«. وأجبته: »أجل موفق، ولكني في هذه الساعة غير موفق«. وسألني: »وما سر عدم توفيقك؟« فقلت له: »تصور أنني منذ ثلاثة أيام أفكر في موضوع قصة أكتبها للفكاهة فلا يهديني التفكير!« وعبس هنيهه مفكراً وقال: »وهل نضبت أفكارك؟« قلت: »كلا.. ولكن الذهن لا يسعفني دائما« قال: »ولكن الحياة مليئة بالموضوعات وما لك تبحث في عالم الخيال والخرافة ولك في وقائع الناس وحوادثهم ما هو أعجب من الخيال وأغرب من الأساطير الموضوعة« وكأنه لم يشأ أن يكلف نفسه مؤونة التفكير معي بل ترك الأمر وراح يحدثني عن تلك الصورة التي جاءته بالمجد والشهرة. وقال: »لا تحسبن الفضل في نجاحي راجعاً لريشتي فقط وإنما هو راجع للنموذج الذي نقلت عنه هذه الصورة « وسألته: » من كانت؟« قال: «فتاة تركية فقيرة.. رأييها في منزل أحد معارفي وعرفت طرفاً من حياتها الأولي.. مات والدها في أثناء غزوة اليونان الأناضول.. وهاجرت إلي الاستانة.. وعاشت عيشة مضطربة حتي أدي بها المطاف إلي مصر فأواها أصدقائي في منزلهم.. حتي رأيتها وراعني جمالها وصفاء عينيها وما يتجلي فيهما من الطهر والألم المكظوم.. فعرضت عليها أن تقف أمامي لأنقل عنها صورة للمعرض، وأجزلت لها العطاء فرضيت. »وما ظنك بفتي في مقتبل شبابه - أجل.. إنني لا أزال شاباً.. ولا تغرنك هذه الشعرات البيضاء في فودي - ما ظنك بفتي يخلو بامرأة حسناء ساعات طويلة. ويقضي هذه الساعات متأملا في تقاطيع جسدها البديع التركيب.. وفي ملامح وجهها العجيب الجمال؟« قلت: »يحبها!« أجابني: »وأكثر من ذلك أيضاً.. يتزوجها.. وهكذا ما حدث، فقد عشقتها وأيقنت أنني لا أستطيع أن أعيش دونها.. وتزوجتها.. وكنت أعلم أن ماضيها حافل بالآلام والذكريات فلم أشأ أن احرك رماده بل كنت اعتبرها ولدت يوم دخلت معملي. »وعشت معها سعيداً..وبذلت جهودي في اسعادها.. وأقبلت الدنيا علي فتفاءلت بها خيراً ولم أدخر وسعا في إرضائها حتي أصبحت تغبط نفسها وتهتاجها السعادة فتبكي أحياناً وهي في أحضاني وتقول: »لعمري، ما كنت أحسب أن في الامكان أن يحصل الإنسان علي مثل هذه السعادة كلها!!« »ومرت الأيام ونحن أسعد الناس.. وفي ذات يوم جاءني الخادم يخبرني أن شخصاً يطلب مقابلتي وقدم لي بطاقة باسمه فقرأت »نهاد كمال« وعلمت أنه تركي فدعوته للدخول. »كان رجلاً مهذباً مؤدب الحديث، والحركات ولو أن مظهره يدل علي أنه من طبقة وضيعة. »وماكاد يدخل الحجرة حتي سقط بصره علي هذه الصورة .. صورة امرأتي فنسي وجودي ونسي نفسه واتجه نحوها وكأنما روحه وعواطفه ومشاعره كلها تجمعت في تلك النظرة العجيبة الملتهبة التي القاها علي الصورة! »وسمعته يتمتم: »يا الله!!« «ثم عاد ببصره نحوي فراعني شحوب وجهه وارتجاف شفتيه ولم تسرني حركته الأولي ودعوته للجلوس »جلس وبادرني بالاعتذار ثم قال في صوت مختنق: »هذه الصورة؟« »قلت له: »مالها؟« »أجابني: »أنني أعرفها.. أعرف صاحبتها!!« »وشعرت بضيق وانقبض صدري وخيل إلي أن كارثة كبيرة ستحيق بي. »ثم صمت طويلاً ونظر إلي نظرة غريبة امتزج فيها الخوف بالتوسل واليأس. »وتكلم فقال : »انني اشتغل في إحدي شركات الملاحة بالاستانة.. ومنذ ثلاثة أشهر تقريباً رأيت صدفة مجلة مصرية تدعي «المصور» ورأيت فيها هذه الصورة وعلمت من قراءة ما تحت الصورة انها من صنعك. فكان لابد لي من أن أراك«. »ولكني فقير.. ليس معي من المال ما يكفيني للسفر من الاستانة إلي مصر.. ولذلك رحت اقتر علي نفسي وانتقلت من المنزل الذي اسكنه إلي حجرة صغيرة علي سطح منزل حقير. وامتنعت عن الخمر وعن التدخين.. وحرمت نفسي من اللباس الحسن وارتياد الملاهي.. وكنت أضع القرش فوق القرش حتي استطعت في ختام هذه الشهور أن أجد معي عشرين جنيها فجئت إلي مصر.. ومازلت أبحث حتي اهتديت إليك فجئت إليك بعد أن أضناني التعب وأنهكني اليأس والحرمان أسألك عن صاحبة هذه الصورة وأين مقرها؟ »وكنت في أثناء رواية قصته ذاهلاً أحسب حساباً لختامها الرهيب.. وسألته وأنا أود ألا أسأله وألا يجيب: »وما علاقتك بها؟« وقال في أسي ويأس عميق: «انها زوجتي!!» وكانت الصدمة فوق ما أتحمل »زوجتي التي أعبدها وتعبدني.. زوجة هذا الرجل الماثل أمامي وقد جاء يطالبني بها.. »لم أدر ما خطر ببالي حينذاك فقد تواردت الأفكار المضطربة المبهمة علي ذهني وشعرت بأن الأرض تميد بي »واستطرد الرجل يقول: «لقد هجرت منزلي منذ سنة تقريباً.. واختفت.. وبذلت كل ما في وسعي للبحث عنها دون جدوي.. وأخيراً.. خيل إلي أنني اهتديت إليها.. فالحمد لله.. الحمد لله الذي لم يضع انتظاري ولهفتي سدي!« »ماذا تصنع لو وقفت موقفي.. هل أضحي بسعادتي وسعادة زوجتي وافترق عنها وأعيدها إلي زوجها السابق الذي حرم نفسه من مباهج الحياة وقاسي ما قاسي في سبيل العثور عليها فهو جدير بأن يرتاح من عنائه ويكافأ علي حرمانه وحزنه الطويل؟ »أم أنكر معرفتي بها وأبقيها معي وأنا أعلم أن الله لا يرضي عن علاقتي بها فقد أصبحت الآن علاقة آثمة اذ هي ذات بعل؟ »وفي تلك الدقيقة الخطيرة فتح باب الحجرة فجأة ودخلت زوجتي.. »رأيتها داخلة وهي في أبهي حلل جمالها فشعرت بأن كل ما في العالم من وحشية واجرام وشر حل في جسدي.. وخيل إليّ أنني سأنقض علي هذا الرجل الذي سيسلني إياها فأمزقه تمزيقاً. »ولكن حدث عند ذاك ما لم يكن في الحسبان. »فان زوجتي ما كادت تري رجلا غريبا في حجرتي حتي ارتدت خجلة وتمتمت بعض كلمات اعتذار وقالت: «كنت أظنك وحدك« ووقف نهاد ونظر إليها نظرة عادية دون اكتراث ثم اعتذر في لطف وعاد إلي مجلسه وقد أعرض ببصره عنها احتراماً. »ودهشت.. وخيل إلي أنني في منام »استتبقيت زوجتي وقلت لنهاد: «هذه زوجتي. ووقف نهاد ونظر إليها نظرة عادية ومد يده ليحييها وانحني أمامها في أدب وهو يقول بكل بساطة: «لي الشرف الزائد« »ونظرت إليه زوجتي نظرة سطحية ثم نظرت إلي مستفهمة تسألني: »من يكون هذا الرجل؟ «وساد السكون هنيهة.. ثم انسحبت زوجتي وما كادت تغلق الباب خلفها حتي زال هدوء نهاد الذي تكلفه أمام زوجتي وساوره الاضطراب ثانياً وقال: »استحلفك بالله يا سيدي أن ترشدني إلي مكان صاحبة الصورة!!» «وقلت: »زوجتي هي التي نقلت عنها هذه الصورة» وحملق إلي الرجل وقال: «مستحيل.. إنها صورة زوجتي« »وذهبت إلي باب الحجرة وناديت زوجتي مرة أخري فجاءت ووقفت علي مقربة من الصورة وراح الرجل يتأمل منها وفي الصورة طويلا.. »ثم أطرق برأسه وقال: «عجيب هذا الشبه بينها وبين الصورة.. وأعجب منه الشبه بين زوجتي وبين الصورة.. ولكن زوجتي لا تشبه قط هذه السيدة! »وبهتت زوجتي وهي لا تفقه شيئاً واستطرد الرجل يقول: «عينا زوجتي رماديتان.. وعينا السيدة زرقاوان.. شعر زوجتي أحمر.. وشعر السيدة أصفر ليس بين الاثنتين أي تشابه، ومن المدهش انهما تتشابهان في الصورة هذه المشابهة المدهشة.. وتختلفان في الحقيقة هذا الاختلاف الكبير« »وبعد نصف ساعة خرج الرجل يائساً وقد أدرك أن جهاده وتعبه وتقتيره ورحيله ضاع سدي. ولكني أؤكد أنني لم أمر طول حياتي بساعة أشد قسوة وصعوبة من الساعة التي جاء فيها هذا الرجل يطالبني بزوجته«. قضيت مع فوزي ساعة هنيئة ثم هممت بالانصراف ولكنه حاول استبقائي فاعتذرت بأن لابد من الانصراف لأخلو بنفسي وافكر في موضوع قصة اكتبها. ونظر إلي نظرة عتاب طويلة وقال: »ألا يروقك هذا الموضوع.. الا يصلح هيكلا لقصة قد تعجب بعض القراء؟؟« »أحمد«