ننشر مجموعة من آراء نجيب محفوظ في عدد من الشخصيات السياسية، التي تضمنها كتاب "حوارات نجيب محفوظ" للكاتب الكبير محمد سلماوي، وهي جزء من الحوارات التي أجراها سلماوي مع محفوظ، ونشرت في جريدة الأهرام كل يوم خميس، في الفترة من ديسمبر 1994، وحتي رحيل محفوظ في أغسطس 2006، ومن المقرر أن تصدر هذا الأسبوع في كتاب عن مركز الأهرام للنشر. سعد زغلول أسأل نجيب محفوظ عن زعماء مصر الذين رحلوا، فاكتملت دورتهم، وصار تاريخهم قابلاً للتقييم، وأبدأ بسعد زغلول، فتلمع عيناه وتعلو نبرة صوته: - سعد زغلول هو بطل جيل بأكمله، من عرف السياسة في جيلنا كان مدخله إليها سعد زغلول، مدخله إلي الوطنية كان سعد زغلول، مدخله إلي تاريخ مصر كان سعد زغلول. هل قابلته؟ - لم أره قط.. كانت هناك فرصة وحيدة لرؤيته، لكنها لم تتحقق، فحين اختلف مع الملك وقامت المظاهرات أمام سراي عابدين تهتف "سعد أو الثورة"! كان سعد سيجيء لمقابلة الملك، فقلت لنفسي: اليوم سأراه! لكن ما إن وصل إلي ساحة عابدين حتي أحاطت به الآلاف من كل اتجاه، حتي إن سيارته تحولت إلي كتلة بشرية تتقدم بصعوبة في اتجاه القصر، حاولت جاهداً أن أجيء يميناً أو يساراً، علني ألمحه، لكنني لم أستطع حتي أن أري سيارته. وتدمع عينا نجيب محفوظ وتحتبس الكلمات في الحلق، فيحل الصمت لحظات متصلة، لا أستطيع خلالها مواصلة الحوار، احتراماً للحظة وتقديراً لمشاعر الرجل التي فاضت أمامي في تلقائية نبيلة، فأجزع السؤال بداخلي فلا يطل برأسه إلا بعد أن يستعيد الأستاذ هدوءه: علام حزنك يا أستاذ نجيب؟ - ليس حزناً.. الحزن قد فات وقته وانقضي إنه شريط الذكريات التي أحياها حوارك اللعين، ثم يضيف: لقد كان سعد زغلول هو المدرسة التي تخرجنا فيها جميعاً، المدرسة التي تعلمنا فيها كيف نحب مصر من يوم أن وجدت، أن نحبها بقدر عمرها. ويصمت الأستاذ من جديد، ولا أرضي عن نفسي وأنا أقطع الصمت بسرعة كي أواصل الحوار: وماذا عما يقال عن أن "»عد" بعد توليه الوزارة تراجع قليلاً عن مواقفه السابقة، وصار يتعاون مع الإنجليز؟ - فيقول "محفوظ" في هدوء لكن بإصرار والدمع مازال في عينيه: لم يتراجع أبداً، والوزارة التي تولاها فعلت ما لم تفعله قبلها وزارات مصر مجتمعة من حيث الإصلاح والمواقف الوطنية، أما عن علاقته بالانجليز، فبعد مقتل السردار فإن الانجليز استخدموا القوة وطرودنا من السودان، فماذا كان باستطاعة سعد زغلول أن يفعل؟ وحين وجه إليه أعضاء الحزب الوطني المعارض مثل هذه الانتقادات قال لهم: أعطوني "تجريدة" وأنا أرد علي الانجليز. وتتوالي الذكريات، فيقول الأستاذ: وحين ذهب "اللنبي" يعطي ل"سعد" إنذاره الشهير دخل عليه مجلس الوزراء بالجيش والخيالة، ودون سلام أخرج إنذاره وقرأه، فقال له "سعد" بابتسامة: لم أكن أعلم أنكم أعلنتم الحرب! كم حزنت علي وفاته؟ - حزنت حزناً لم أحزنه علي أحد.. ربما كان أكبر حزن في حياتي. واستودع الأستاذ قبل أن يودع الدمع عينيه. مصطفي كامل ومحمد فريد يمتد الحوار مع نجيب محفوظ حول الزعماء المصريين، فأسأله عن مصطفي كامل؟ - فيقول: هذا هو زعيم الوطنية المصرية، هو أول صوت بعد الاحتلال يرتفع لينفخ في نار الوطنية المصرية، هو الذي ربي الجيل الذي حين تطورت الظروف صار جند سعد زغلول.. الذين كانوا يهتفون: "نحن جنودك يا سعد"! جميع هؤلاء الطلبة والشباب هم في الحقيقة تربية مصطفي كامل. ومن محمد فريد؟ - محمد فريد يقال فيه ما قيل في مصطفي كامل، لكنه يهيأ لأنه لم يكن يتمتع بصمود مصطفي كامل، فحين وجد نفسه مهدداً بالسجن ترك مصر وهرب، وكان ذلك سبباً أساسياً في الضعف الذي لحق بالحزب الوطني، حتي إن أحد رجال الحزب الذي كان يراسل محمد فريد قال له: لو كنت أعرف أن خروجك سيكون له هذه النتائج علي الحزب الوطني، لكنت قد قيدتك بحبل وتركتك تدخل السجن حتي لا يضعف حزب الوطنية المصرية. ودون أن أسأله، يعود الأستاذ مرة أخري إلي سيرة زعيم صباه سعد زغلول، فيقول: إن محمد فريد لم يكن يحب سعد زغلول، وكان يقول عنه أنه يتعاون مع الانجليز، لكن الغريب أنه حين أخذوا يشكون له من ضعف الحزب الوطني وانفضاض الناس عنه، أرسل إليهم رسالة من منفاه الاختياري بفرنسا، يقول لهم فيها: خذوا لرئاسة الحزب سعد زغلول، فأنا رغم اعتراضي علي الكثير من تصرفاته، إلا أنني لا أشك في وطنيته ولا في نزاهته، هكذا شهد خصم سعد زغلول، ولقد قرأت ذلك إما في مذكرات محمد فريد، وإما في تاريخي الرافعي. لا أذكر. وقبل أن أطرح سوالاً جديداً، يواصل الأستاذ في إصرار: سعد زغلول لم يكن زعيم مصادفة، لقد كان وكيل الجمعية التشريعية، أي أنه كان زعيم الشعب المنتخب وقد انتخب في دائرتين، وكان أول من وضع تقاليد الانتخابات في مصر، فقد كان يخطب في الجماهير معلناً عن برنامجه فيما لو انتخب! ثم يضيف: كان ذلك في بداية القرن، فقل لي الآن كم مرشحاً يدخل الانتخابات ببرنامج محدد يستفتي عليه الناس، ثم يعمل علي تنفيذه بعد انتخابه؟! فلا تصدر عني إجابة عن سؤال الأستاذ، ولا أوجه له أسئلة أخري. النحاس ومكرم عبيد ثم يأتي دور مصطفي النحاس في الحديث عن الزعماء، فيقول نجيب محفوظ: "النحاس" هو خليفة سعد زغلول، قد لا يتمتع بعبقرية "سعد"؟ لكن أخلاقه وصلابته لم يعرف لها مثيلا، فقد كان يناجز الاستعمار والملك بكل شدة، مدافعاً عن حقوق مصر الداخلية والخارجية، وظل في هذا الجهاد من بعد وفاة سعد زغلول عام 1927 وحتي قيام ثورة يوليو عام 1952.. وكان مثالاً للنزاهة بين من حكموا مصر، فقد كان "الوفد" لكي يحافظ علي كرامة زعماء الحزب يصرف له مرتباً من أموال "الوفد"؟ مع أنه تولي رئاسة الوزارة عدة مرات، وكم من المناقصات والمزايدات مرت في عهده، دون أن تمتد يده إليها من قريب أو بعيد، وذلك في وقت كانت فيه الوزارة في مصر تمثل سبيلاً للغني، أما هذا الرجل فكان إما يتكسب من المحاماة وإما يصرفوا له مرتباً، ليتفرغ لزعامة "الوفد". وما إذن قصة الكتاب الأسود و.......؟ - فيقاطعني الأستاذ علي غير عادته، قائلاً: دعني أولاً أكمل لك الكتاب الأبيض.. ثم يسترسل: لقد كان جمال عبدالناصر يصرف له راتباً شهرياً في أواخر أيامه، حين علم أنه لا يملك ثمن الدواء الذي يتناوله، فكان أحد الضباط يذهب إليه شهرياً ليسلمه مبلغ 300 جنيه، وهو مبلغ كان له في ذلك الوقت قيمته التي قد تساوي أكثر من 3 آلاف جنيه اليوم. أما الكتاب الأسود فإذا أردت أن تعرف قيمته، فابحث عن نسخة قديمة منه واقرأها، فستجد فيه مثلاً اتهاماً لحكومة الوفد تحت زعامة "النحاس" بأنها منحت أحد الموظفين علاوة 4 جنيهات مرتين في سنة واحدة. لقد كان مكرم عبيد صاحب هذا الكتاب زعيماً وطنياً، لكنه كان عصبياً، وقد أثر في نفسه تأثيراً كبيراً أن ضعفت في وقت ما صلته ب"النحاس"؟ فقد كان يحب دائماً أن يكون رجل "النحاس" الأول، ولا يطيق أن يري أحداً في هذا المكان، لكن تلك الصلة تدخل فيها نساء ورجال وخلافه، حتي انقطعت، فكان الكتاب الأسود. وما رأيك في مكرم عبيد كزعيم؟ - كان "مكرم" عبقرياً، وكان وطنياً.. هو من الناس الذين كانت خطبهم غناء، هو محمد عبدالوهاب الخطابة السياسية، ومصر لم تر خطيبا بعد سعد زغلول مثل "مكرم"؟ فقد كانت بلاغته من القرآن الذي كان يحفظه عن ظهر قلب ويدرسه دراسة جيدة، إن "مكرم" بلاشك من العناوين الثابتة للوحدة الوطنية من الرجال العظام في تاريخ مصر.. ذلك هو مكرم عبيد. جمال عبدالناصر ونصل في حوارنا عن زعماء مصر إلي جمال عبدالناصر، فأبادر نجيب محفوظ بالقول: رأيتك يا أستاذ نجيب، وقد تهلل وجهك وأنت بالمستشفي حين حضر لزيارتك "الدكتور خالد" نجل الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وقد قمت لأول مرة من مرقدك، وأخذت ترحب به، قائلاً: أهلاً بابن الزعيم، ثم سألت عن المصور، وقلت إن كان من أتي لزيارتي في غرفة الإنعاش كان يحضر معه مصوراً، ألا يوجد مصور الآن ليصورني مع ابن الزعيم؟ - فيبتسم الأستاذ وهو يقول: جمال عبدالناصر هو زعيم ثورة، وقد أثر في مصر تأثيراً كبيراً، فقد غير تركيبها الطبقي، أي أنه رفع الشعب عدة درجات، وحطم الإقطاع دون سفك دماء، وعمل إصلاحات لمصر لم تعرفها من قبل، ولم يكن به عيب إلا انزلاقه أو انزلاق الديكتاتورية إليه، واللعب الشيطاني الذي لعبته المخابرات في وقته، لكنه زعيم من أجل وأعظم زعماء مصر. كم مرة قابلته؟ - قابلته عدة مرات في مناسبات عامة، ومرة واحدة في مناسبة خاصة. أما المناسبات العامة، فكانت في عيد العلم مثلاً حين قلدني وسام الاستحقاق من الدرجة الأولي، وكان هذا هو أول وسام في حياتي، وفي عهده أيضا حصلت علي جائزة الدولة التقديرية، وفي عهده توليت كل منصب كبير توليته في حياتي. وأما المناسبة الخاصة فكان عند افتتاح المبني الجديد ل "الأهرام" عام 1988 وقد كنت جالساً مع د.حسين فوزي وصلاح جاهين وصلاح طاهر، حين دخل علينا به الأستاذ هيكل، وأتذكر أنه قال لصلاح جاهين: أكل لحمة الرأس تخنك كثيراً، ثم لاطفني، قائلاً: لماذا لم نقرأ لك قصصاً ب"الأهرام" منذ عدة أسابيع؟ وقد كنا يوم الخميس، فقال له الأستاذ هيكل بالمصادفة فإن له قصة غداً في عدد الجمعة، وهي من النوعية التي "تودي في داهية" فقال له "عبدالناصر" علي الفور: "توديك انت". وينطلق الأستاذ يضحك من القلب، ثم يعود إلي هدوئه، ليقول: إن جمال عبدالناصر بالنسبة إلي جيلكم هو ما كان سعد زغلول بالنسبة إلي جيلنا.. رمز للوطنية وبطل لجيل بأكمله. أنور السادات سأل نجيب محفوظ عن أنور السادات، فيقول: - أنور السادات هذا تضعه في قائمة السياسيين الكبار علي مستوي العالم، ورغم أن له شخصية الزعيم وقوته، إلا أنه في الأساس سياسي والمعارك التي كسبها، كسبها بالسياسة، بما في ذلك الحرب التي كسبها أيضا بالسياسة، ولقد غير "السادات" صورتنا في العالم، والحقيقة أن الأثر الأليم الذي تركته حرب "يونيو 67" في نفوس جيلكم وجيلنا، والهزيمة النفسية التي ملأت العرب، لم يخلصنا منها إلا أنور السادات. ألم يكن له كسائر الزعماء نقاط ضعف؟ - بل كانت له أخطاء جسيمة، ربما تفوقت في رأي البعض علي أخطاء من سبقوه، لكن من حق أنور السادات علينا أن ننسي كل سيئة وكل خطأ وكل مصيبة في عهده من أجل انتصار أكتوبر، والقرار الذي اتخذه فيها، فرفع مصر والأمة العربية كلها، ثم السلاح الذي أوصلنا إليه بعد ذلك. ويستطرد الأستاذ: إن المرة الوحيدة التي منعت فيها من الكتابة كانت في عهد أنور السادات، وذلك في بداية عام 1973؟ حين وقعنا علي بيان ضد حالة اللاسلم واللاحرب، كان قد كتبه توفيق الحكيم وكنت أنت أحد الموقعين معنا. ولقد منعت جميع أعمالي من الإذاعة والتليفزيون أنا وتوفيق الحكيم، ولم يعد مسموحاً بأن يذكر اسم أي منا، رغم أن اسمينا لم يظهرا في قائمة الممنوعين من الكتابة، والذين تم نقلهم إلي هيئة الاستعلامات. ثم يقول: لكن عذر "السادات" في ذلك أنه كان يعد لحرب أكتوبر العظيمة، ولم يكن يريد خلخلة في الجبهة الداخلية ولم نكن نعلم ذلك. رغم حديثك الحماسي عن انتصار أكتوبر، فلا أجد أنه قد ألهمك شيئا؟ - بل ألهمني، ولكن بالطريقة الأدبية، فقد تأثرت بالحرب نفسياً، ولذلك ما استلهمته منها هو روحها، وليس تفاصيل معاركها، وروح أكتوبر في أعظم ما فيها.. لقد ظهرت تلك الروح بشكل واضح في "الحرافيش" التي اعتبرها ثمرة من ثمرات 6 أكتوبر، فليس لي أدب قبلها بهذا التفاؤل، وبهذه البطولة، وبهذه المهمة، إنها ملحمة حقيقية.