بمجرد خروجي من العمارة، أفكر في ركوب »توكتوك« يوفر عليّ مشي ما تبقي من شارع »أبو الفتوح عبد الله«، محل سكني، إلي تقاطع شارعي العشرين مع الزهراء، حيث ركوب ميكروباص يقطع الشارع الأخير إلي محطة مترو عين شمس. أنظر في شاشة الموبايل، أجد الساعة العاشرة وخمس دقائق، وموعدي في مكتب الحقوقي أمجد الناجي، في الحادية عشرة، فأتراجع عن فكرة »التوكتوك«، وأرتاح لقراري، وأندهش من علاقتي بتلك المركبة الصغيرة التي تسير علي ثلاث عجلات وتشبه الخنفساء الضخمة في شخصيات الإنيميشان، وأقول في نفسي إنني إذا ما كتبت رواية سيمثل التوكتوك فيها محورا أساسيا، وسأجعله سببا في فرار بطلها من شبرا الخيمة التي نشأ فيها، لانتشاره في الشوارع المختنقة من الأساس، بشكل أثار أعصابه، لينتقل إلي عين شمس الشرقية في سنة 2007، حيث عائلة زوجته، وكيف أنه ارتاح فيها لشوارعها الواسعة الأقل عشوائية، ولخلوها تماما من التكاتك، واعتماد سكانها، في تنقلاتهم الداخلية القصيرة، علي سيارات ملاكي، »فيات 128 أو 521 أو لادا«، وأغلبها موديلات قديمة حولها أصحابها إلي »اجرة» بلافتة صفراء علي التابلوه، قبل أن تنتشر التكاتك مثل الجراد، في أعقاب ثورة »25 يناير«. ألعن »أم التكاتك«، وأواصل سيري، وأسخر من نفسي لتفكيري في كتابة رواية، بينما يحاصرني فشلي في كتابة تقرير واحد عن 7 أيام قضيتها في إسطنبول، فأعاود التركيز فيما سأقوله أمام المحقق، في الوقت الذي يرتعش تليفوني فأخرجه من جيبي، وأطالع علي شاشته حروف »أمي«، أعيد الموبايل لجيبي، بعد إغلاق صوت النغمة، وأنوي الاتصال بها بعد انتهائي من التحقيق، وأتمني ألا تعاود اتصالها ثانية حتي لا تخرجني من تركيزي، خاصة أنها ستبدأ حديثها بالسؤال عن »هشام«: ابتكلم أخوك علي النت؟»، «أخوك ما بيكلمنيش يا عادل.. قول له اتصل بأمك«، «يا بني مش هاتجيب الكومبيوتر وتيجي عشان نكلم أخوك»، «مش هاتروح له تاني.. مش هاتعمل شغل عنده؟»، كلما ذكرت أمي اسيرة الشغل»، أتذكر نذالة شقيقي، وكيف أنه تجاهل إرسال ما طلبته من معلومات تخص حياة الإخوان في تركيا، من واقع معايشته للشباب الثلاثة، واكتفي بإرسال إجابات (كوبي وبيست) لمجموعة من أعضاء صفحة خاصة بالمصريين المقيمين بإسطنبول، عن سؤالين: الماذا تتعلم اللغة التركية؟ وما أخطاء الإخوان في مصر قبل 30 يونيو من واقع معايشتك للتجربة الأردوغانية؟. تعاود أمي الاتصال، فأَعلمُ أنها لن تتوقف حتي أرد، وأسارع بفتح الخط: أيوة يا ماما صباح الفل. مابتتصلش ليه يا عادل؟ معلش مشغول بس بشغلانة كده.. انتي عاملة ايه؟ الحمد لله يا بني كويسة؟ وبابا عامل ايه؟ أبوك كويس كان قعد يومين عند عمتك حمدية وجه امبارح. خليكي معايا يا ماما. انت في الشغل يا بني.. أنا معطلاك؟ لا يا ماما أنا كنت باركب الميكروباص. أنا عاملة محشي.. هاتيجي النهاردة؟ لو خلصت بدري هاعدي عليكي.. لو مكانش هايبقي بكرة. بتكلم هشام؟ أظل صامتًا، لا أرد علي سؤالها، أشعر أن إجابتي ستحمل كلمات لا ينبغي لجيراني في الميكروباص أن يسمعوها، أواصل صمتي، بينما تكرر سؤالها: ايا بني بتكلم هشام؟»، ثم تستدرك: »بيقولوا في التليفزيون أن داعش دبحت ناس في العراق«. مثلي، تصدق أمي ما يروج له الإعلام من علاقة وطيدة بين أجهزة الاستخبارات التركية وحركة اداعش»، لكنها لا تصدقني عندما أؤكد لها أن الإرهاب يضرب جميع البلدان في المنطقة، ولم يترك سوي تركيا وإسرائيل، لا تستوعب حقيقة أن لا حرب في الأراضي التركية، وأن خروج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليعلن استياءه من تقدم القوات الكردية وتحرير قري في الشمال السوري من سيطرة قوات اداعش»، ربما يعني أشياء كثيرة، لكنه علي أية حال لا يعني أن ابنها في خطر. يا بني أنا قلقانة علي أخوك. ملَلَتُ التأكيد عليها بأن هشام يعيش في أمان، ويتنقل بوسائل المواصلات العامة وسط الشعب التركي وسياح من جميع الجنسيات، كدت أعترف في إحدي مرات سؤالها عنه بأن ابنها يرافق تونسية تعيش مع شقيقتها المخطوبة لشاب تركي كردي، وتأتي إليهما شقيقتهما الثالثة في فترات إجازاتها من فرنسا، حيث تعيش مع زوج فرنسي عجوز، منحها الجنسية، وتنتظر موته لتتزوج من عشيقها التركي. كدت أعترف لها أن ابنها، وبرغم فشله في العثور علي عمل ثابت مقضيها بالطول والعرض»، وأنه لا داعي إطلاقًا للقلق عليه. ألو. لا أرد. ألو.. ألو. أكتم أنفاسي غيظًا. ألو.. ألو.. يا عادل. أشعر بقرب انفجاري وسبها هي وابنها هشام. يا عادل.. يا عادل. أُغلق عليها الخط، ثم أغلق الموبايل، وأعيده لجيبي، وأعتدل في جلستي، وأضع حقيبة اللاب علي ساقيّ. ينادي السائق: »المدرسة.. حد نازل؟ فترد من بجواري: »أيوة«، فأرفع الحقيبة، وأُبعد ساقيّ عن طريقها، فتتخطاني وطفلها، لأحتل مكانها بجوار النافذة خلف السائق، ثم أعيد الحقيبة لوضعها السابق، مطمئنًا أن لا أحد سيحركني من مكاني حتي نهاية شارع الزهراء. أقرأ: مصر إسلامية يا مكتوبة بالإسبراي الأسود علي باب محل، فأقول في نفسي: ونعم الإسلام يا ...»، ثم يمر الميكروباص علي سور معسكر الجيش، فأقرأ عليه: »انتفاضة الشباب المسلم 28/11«، »الحرية لمحمد متولي»« «في الجنة يا أنس»، »الداخلية بلطجية«، »اسطورة التاريخ أيمن فتحي«، «بروفيسور الفيزياء أ/ محمد عبده»، «أستاذ الإنجليزية الأول أشرف متولي«، »هزاع للعقارات 01111111111«، «رابعة في القلب«، «الحرية لسبرايت»، «الحرية للطلاب»، «المغازي للعقارات 01222222222. غالبا ما أطالع العبارات الغاضبة المكتوبة علي سور »المعسكر«، سواء في ذهابي أو إيابي، لكنها المرة الأولي التي أراها وتذكرني بالفعالية التي شهدتها مصادفة في حي شيرين إ»فلر« بإسطنبول، وكان ينظمها حزب إسلامي، مستخدما أدوات بسيطة، كانت الأداة الأهم فيها بانر عرضه لا يقل عن 6 أمتار، وطوله يزيد علي 3 أمتار، وكان لونه أبيض قبل أن يَسْوَدَّ بكتابات الأتراك الإسلاميين عليه، يعبرون فيها عن مطالبهم من الحكومة. أتنفس بعمق عندما أتذكر أنني التقطت صورا للفعالية يظهر فيها حشد المشاركين، وفي إحداها، يحمل أحدهم صديقه علي عنقه وكتفيه حتي يستطيع كتابة جملته في مكان شاغر أعلي البانر. كان الشباب ذوو اللحي والذقون النابتة، والنساء والفتيات اللواتي يرتدين العباءات والطرح، يمارسون الكتابة بحماس شديد، وكأن فعل الكتابة بالنسبة لهم طقس ل»التنفيس«.