يلوح رَكْبُه من بعيد، فوق ظهر حمارته يتأرجح، تقصر المسافة بيننا أنا المنتظر رويدا رويدا، تكرر يمناه ارتفاعها بمحازاة رأسه، لتصاحب إلقاءه أو رده للسلام ، علي من تصادف تواجدهم بالطريق، فرادي أو جماعات، ملاصقين لجدار المقهي القريب، أوقابعين فوق مصاطب الطين، أمام دورهم الواطئة، فيما تسند يسراه جوال الأذرة الخضراء، المنتقاة أساسا للشواء، وحزمة من نبات الحميض، عشوائي الإنبات. بناء علي إشارته، تسرع أقدامي بالعدو، تلامس أصابعي ذيل الحمارة، مداعبة شعراته الخشنة الطويلة، فلا تفزع أوتثور، أمام دارنا ولصق مصطبتنا تماما، تتوقف حركة أقدامها، دون انتظار لأمره، ومع ملامسة أقدامه للأرض، يلقي بالجوال الممتليء، فوق المصطبة، متعجلا إفراغ محتواه، كي يتخلق للتو هرمٌ أخضر صغير، بينما ألقي أنا بحزمة الحُمّيْض، خلف باب دارنا الموارب.
ليس سوي رقعة محدودة من الأرض، تلك التي يقوم والدي علي زراعتها، فوق صفحتها تتغير المحاصيل؛ قطنا، حتي يصيب الدور زرعتنا الأخيرة الأذرة ، حول الرقعة يدور جسر رفيع، يحدد مساحتها بالضبط، فوق هذا الجسر، وحول الأعواد المحملة بالثمار، تنمو حشائش عشوائية، تصلح طعاما للدابة، وللأرانب بزريبة الدار، كما تتكاثر دوائر نبات الخُبيزة، ونبات الحُميض مستطيل الأوراق، استطالة قوارب الصيد الهزيلة، التي نصنعها نحن الأطفال آنذاك ، من أوراق كراساتنا القديمة، ونقف مبتهجين دون سبب منطقي ، وهي تطاوع ماء النهر، مبتعدة عن أيادينا. من حزمة الحميض خلف الباب، يصل العلم لأمي بوصولنا، تزور قلبها البهجة، تسرع عيناها لتلقي علينا، مجرد نظرة اطمئنان عابرة، مدركة أن علي رجلها ، سرعة التعامل مع محتوي الهرم الأخضر، وأن عليها بالتوازي إعداد عدتها، للتعامل، مع الخلطة العجيبة من أوراق الحميض، مع الأرز وقليل من العدس، وكومة من التوابل، كي تصنع طبخة الحُمَّضِيَّة، بطعمها الحِنِط المُشتهي، ورائحتها الآسرة سريعة الانتشار. محسود والدي، علي كبر الأكواز وعلي عددها، الواصل أحيانا إلي ثلاثة، أوأربعة، فوق العود الواحد، وقبل اصفرار أغلفتها آذنة بالجفاف، تنتقي يداه أنسبها اخضرارا، دافعا بها، إلي جوف الجوال المفتوح، فالغلاف الجاف، دليل جفاف الحبات بداخله، إذ لم تعد تصلح إلا للطحن لاحقا، لتصير دقيقا، تخبز منه أمي، فطيرة الأذرة بخض اللبن، التي ورثت صنعها عن جدتي، أوتخالط بين دقيقه الخشن، وبين دقيق القمح الناعم، لتخبز بمساعدة الجارات ، عيشا بلديّا طازجا، له رائحة الصباح، بفرننا الطيني، البارك تحت التعريشة، في أخر الزريبة، ولاينتهي الخبيز، إلا بفوز الصغير الذي هو أنا ، بقُرصتي المعجونة، بزيت بذرة القطن والسكر، لعدم تقصيري في جلب الوقود، اللازم لإحماء الفرن، من قش السطح وحطبه، الصائف بفعل الشمس. تعمد يداه الخبيرة، إلي تفحص الثمرات، ساكنة الأغلفة، منتقيا منها خمساً، بعدد أفراد دار أحد الجيران، آمرا إياي بالعدوً، كي أسلمهم إياها، ويعود لينتقي سبعاً، بعدد سكان دار أخري، آمرا إياي أيضاً، بسرعة إيصالها، ثم يعود لينتقي تسعا...، وهكذا... لا تكل يداه من الانتقاء، ولايكل لسانه من العدّ، وتوجيه الأوامر، ولا تكل قدماي من الذهاب والمجيء، تمتلئ أدناي، بدعوات نسوة الحارة، بطول العمر، ونوال العروس الجميلة، تلفح وجهي حرارة الخجل، وأنا أسرع بالانسحاب، يتسع براح صدري، أحس بأن هواء نقياً كثيراً يدخلني، وبطاقة كبيرة تعتري بدني، وببهجة غريبة تغزو كياني، فيما تمتلئ عيناي، بمرأي مساحة كبيرة من نور، تعلو وجه والدي، وحبات عرق شفيفة، تلمع فوق جبينه. أحتضن أخيرا الأكواز الثلاثة، الخاصة بدار شيخي، القائم علي تحفيظي آيات القرآن، وتعليمي كيفية إتقان الوضوء والصلاة، وكلاما كثيرا حول طاعة الوالدين، وصلة الرحم، ومعاملة الجار للجار...، ثلاثة أكواز لاغير، ودت نفسي لو يزيدوا، احدهم للشيخ، والآخر لامرأته عديمة الإنجاب ، أما الثالث، فلأمها العجوز المقيمة معهما. يستغرقنا الوقت... ومع عودتي من دار الشيخ، تكون طبخة أمي قد بدأت، في تسريب رائحتها إلي الشارع، يهاجمني شعور عنيد بالجوع، تلامس أنامل والدي أرنبة أنفه، وعيناه تحصيان الثمرات، الباقية فوق المصطبة، تتأكدان أنها تساوي بالضبط،عدد أفراد دارنا، فيلقي نحوي بنظرة راضية، آمراً إياي، بحملها إلي الداخل.