أصابتني لوثة المثقف المتعالي علي الناس وأنا طالب بكلية التربية. كانت مفردات كالوعي والثقافة والادراك ترد دائما في أحاديثنا أنا وزملائي باعتبار أنها تخصنا بشكل حصري ولا تخص الناس. كرهنا أحمد عدوية كما كرهنا أم كلثوم. سخرنا من فيلم اسماعيلية رايح جاي بقدر سخريتنا من روايات نجيب محفوظ. كان الاجماع عدونا والمزاج الشعبي خصمنا. وهو ما أفقدنا فرصة تفهمه. وهو ما جعلنا نحارب أعداء خياليين. في بيت خيري شلبي انهارت شخصيتي كمثقف مخضرم. اكتشفت كيف أن مثقفا موسوعيا مثله تلهمه أغنية للريس متقال وينصت بشغف لاحد أبناء قريته وهو يثرثر بكلام يبدو فارغا وينحني احتراما للثقافة الشعبية. هو الذي يفهم الدين بمعني إنساني خالص يحب شعبية أداء الشعراوي ويقرأ في ظلال القرآن لسيد قطب كل فترة. هو الذي قرأ عيون الادب العربي والعالمي يحب عدوية كما يحب فيروز. بسبب خيري شلبي تنكرت لشخصيتي المراهقة. واستبدلتها بشخصية أقرب إليه. وحددت انحيازي للناس، وهو انحياز كان قد تشكل من قبل لاعتبارات أسرية خاصة بناصرية والديّ وأخوالي، ولكنه أصبح ساعتها انحيازا متواضعا وخافضا جناحه لاختيارات الناس وتفضيلاتهم حتي ولو كانت لي اختيارات وتفضيلات أخري. ضمن ما تعلمته وهو كثير في بيت خيري شلبي أن الكاتب كائن غير مفارق. وأن الكتابة حرفة كالنجارة. ثمة نجار جيد وثمة نجار رديء وثمة نجار بين بين. ثمة نجار يحب حرفته ويستمتع بها ويحترمها وثمة من يعتبرها أكلا للعيش. أن الكاتب كائن غير مفارق ومجرد قدرته علي اللعب باللغة لا تجعله أكثر حصافة من أي شخص آخر. هو فقط أكثر حصافة من الاخرين في فهم طبيعة حرفته. لهذا وجدتني منذ عامين تقريبا أخرج مما يشبه الاجتماع السياسي وأن أسأل "من أين يأتي هؤلاء الناس بكل هذا اليقين؟!". في عام 2005 حضرت أول مؤتمر لحركة كفاية. كنت وقتها أومن أن الأمور وصلت إلي الحد الذي لا يمكنها الاستمرار بعده علي النحو ذاته. الجمود السياسي والإفلاس العام بدا كأنه نذير بتحول ما. كانت الثورة غير متوقعة بالطبع لكنها ظلت إمكانية ما. كل الحركات السياسية والأحزاب السياسية لم يكن لها الظهير الشعبي الذي يُمكّنها من خلق الثورة فبدا أن الطريقة الأفضل هي انتظارها. في صباح يوم 25 يناير كان يمكن الحديث بثقة عن "الثورة". ومع هذا وعلي مدار السنوات الأربع التي تلت هذا الصباح، ولأسباب متعددة ومعقدة وبسيطة في آن، انسحبت الحركة الثورية لدائرة صغيرة بانتظار ثورة جديدة ما، ثورة غير متوقعة ولكنها بالنسبة للخطاب الثوري إمكانية محتومة. أربع سنوات لم تنشغل الحركة الوطنية بالسؤال الأهم: لماذا ثار المصريون ولماذا توقفوا عن الثورة؟ لماذا يصمت المصريون الآن برضا عما ثاروا من أجله قبل أربع سنوات؟ للإجابة عن هذين السؤالين علي الحركة الوطنية وبخاصة الجناح الثوري منها أن تتوقف عن الوجود ككائن مفارق. وعليها معرفة أن الثورة حرفة كالنجارة. ثمة نجار جيد وثمة نجار رديء وثمة نجار بين بين. ثمة نجار يحب حرفته ويستمتع بها ويحترمها وثمة من يعتبرها أكلا للعيش. ومعرفة أن الثائر كائن غير مفارق ومجرد قدرته علي الخطابة لا تجعله أكثر حصافة من أي شخص آخر. هو فقط أكثر حصافة من الاخرين في فهم طبيعة حرفته.