رفيع كعود حطب مندي، رقيق الطبع كزهرة برية، وجهه يمتلئ بالرضا ، صوته خفيض لكنه لا يتخلي عن عمقه، شاربه الخفيف يجعلك تمسك بيده حتي لا يرتبك وهو يواجه الشوارع الأسفلتية، وأجهزة الصوت والإضاءة ، حين يمشي فإنه لا ينظر إلا أمامه، يمشي بخفة فارس، يعي الأصول، لا يترك مناسبة إلا وبادل فيها أحبته الوداد، ويدرك قيمة وقدر من علموه، لا يكف لسانه عن الدعوات بالرحمة لمن فاتونا تاركين أرواحهم تتبعنا في "الليالي"، وحين تطمئن للهبات التي صانوها فإنها تمرح متمايلة مع أصوات الرباب، لا يبدأ عزت قرشي حفله لرواية السيرة إلا بعد أن يتوضأ متبعا مسلك بعض أجداده من الرواة الذين كانوا يطلقون علي دكة الغناء "المنبر"، لذا لا تستغرب حين يبدأون بالصلاة علي النبي : صلاة النبي تغني عن القوت وتمنع البلا والمراضي يستاهل علقته بالسوط اللي معاه كفو الزياره وما راضي صلاة النبي تمنع ابليس الفايده هي والتجاره فيه ناس حازتها بالكيس ماتوا ما نالوا الزيارة إنه عزت قرشي مطاوع السوهاجي، بن قرية المشاودة ، مركز جرجا ، ذلك الشاب الذي أرهقته دروب السيرة، عزت قرشي المولود في 22 فبراير 1984 يحمل بقلبه كل هذا الثقل ، يدرك تفاصيل المواليد وأماكن ولادتهم، يكابد شوق المحبين في حكايات الغرام، ويتعثر في الطريق مع ارتحالات الهلالية، لكنه سرعان ما يحمل سيفه (ربابه) ليعاود الانتصار، فما الذي دفعه للذهاب إلي الهلالية، وهو الصغير الشفيف، لقد وقع في غرام الحكي بالشعر، وياله من غرام ومن وجع، نعم هو يصلي علي النبي ليؤصل لأبطاله، ليصل بهم إلي سلسالهم البعيد ، ويثني بذكر الطبيب ومعاتبة الزمن والشكوي من الأيام، ويغوص معهم في مشكلاتهم، كما يتلقي الطعنات في الحروب المتتالية، فتلمح ندوبا في أرجاء جسده لكنها تشفي حين تعلن الربابات عن انتصار مظفر للحق والخير. بين رباب "قرشي" ونص "عز" حين أخذته نداهة الهلالية لم يكن يعرف وهو الصغير ما الذي جعله يذهب وراء الرواة في بلدته والقري والنجوع المجاورة، هل كانت الرباب سر الأسرار الذي جذب أذته وهو يستمع لعزف أبيه عم "قرشي مطاوع السوهاجي"، ربما، وربما كان يريد صخبا وحكمة وبلادا تعوضه عن لحظات الصمت الكثيرة التي عاشها، ولما لا وهو الذي تعلم عزف الرباب في مدرسة والده ، دربه فأحسن تدريبه ، وحكي له نثرا بعض قصص الهلالية، وراجع عليه بعض حكاياتها، لكنه آثر أن يذهب إلي أحد مراجعها الأصيلة، إنه عز الدين نصر الدين الذي تبناه، فتعلم منه فنون القول، ولأن السيرة نص يبتلع كل الأشكال فكان علي عزت قرشي أن يمسك بأشكال القول في السيرة ومنها : القصيد - المربع - الموال - العديد - القول الحر الذي يخالط بين الشعر والنثر (فرادي)- الحكي المسجوع ذ الحكي ومنها لابد أن يتقن فنون الأداء بجسده وربابه، مستدعيا جدوده من الراوة العظام الذين أسسوا لفن الممثل الفرد (المونودراما). وحضر الزناتي خليفة وناوي قتال الهلايل لا اسقيه من المر خليفة يابو زيد يا بو باع طايل لا اطلع واقابل خليفاه موزون يميني وشمالي موزون في اللبس خليفاه أنا البطل أنا الهلالي نادي أبو زيد وقال يا قمصان عيشنا ورأينا العجوبة ياعبد بو قلب بقلب منصان روح بسرعة هات لي ركوبة قال يا عبد هات لي فرسنا حمول البلا مش خفيفة لازم ها امل اللي فرسنا قصدت اليوم أقابل خليفة يبدأ عزت قرشي رحلته بتلقي السيرة عن شيخه الأكبر "جابر أبوحسين" وأستاذه المباشر "عز الدين نصر الدين"، ويراجع نصوصه في الليالي علي عشاق السيرة، لم أتعرف علي "عزت قرشي" إلا بعد رحيل عز الدين نصر الدين ، كنت قلقا حين رشحه لي "عزت نصر الدين" ليحتل مكان أخيه في الاحتفالات الرمضانية، وزاد توتري حين قلت لنفسي ومن يملأ الفراغ الذي تركه "عز"، كان "قرشي" مرتبكا لأنه يؤدي السيرة في غير سياق أدائها وبين جمهور ليس جمهورها ، لكنه سرعان ما بدأ يأمن للمكان وللمحيطين به، ساعده تشجيع عم "فاوي القناوي" ووالده "قرشي مطاوع"، وصحبته من العازفين ، وانطلق ليعلن عن نفسه متقنعا بقناع "عز الدين نصر الدين"، وتقاليده في الأداء ، فصار علامة علي صغر سنه بما امتلك من حواشي النص وشخوصه، وظلت التجارب تنضجه حتي إذا رآه أحدهم تعجب من قدرته الطيبة علي الحكي والعزف والتجسيد، والمتأمل لقرشي مرتديا جلبابه الصعيدي وعمامته البيضاء لن يمنحه سنه أبدا، نعم يبدو عزت قرشي أكبر من سنه بكثير فالسيرة شاقة في حملها وقولها، وتمنح رواتها سنوات أبطالها وخبرات الأماكن التي تحركت فيها، بل تثقلهم بعادات ناس البلاد التي عبرتها بداية من نجد مارة بالعراق وأرض الشام وفلسطين ومصر وصولا إلي أرض المغارب . من مصر إلي أرض المغارب حين ذهبنا إلي المغرب لتمثيل مصر في المهرجان الدولي للحكايات، كانت أولي سفرات عزت قرشي خارج حدود مصر، حدثته عن أرض المغرب واستدعينا معا الحكايات التي تناسب مقام وحكايات هذه البلاد ونصيبها من رقعة السيرة الواسعة، كان عزت ذكيا حين انتخب من حكايات التغريبة ما يجعل نصه متسقا مع الناس والمكان، كان استقبال النص له كبيرا وتتبعوه في كل الأماكن الذي قدم فيها روايته، وكانت الزغاريد تلحق كل نص يرويه، وكأنه يستدعي الجدود الذين غابوا في أزمنة القيمة الحافلة بالمعني، هناك كانت الشخوص تتحرك علي المسرح ، والجمهور يناشي بالسماع وعزت قرشي يتجلي كفارس جديد لرواية الهلالية، وكانت رواياته لمقابلات الهلالية والزناتية تمثيلا لملامح عميقة بين المشرق والمغرب ، لا تتجلي فقط في الصراع ، لكنه تتجلي في جملة من العادات والتقاليد والخبرات وقصص الحب الذي تجلي في النصوص وتجلي أكثر علي أرض الواقع حين عشقه عزت قرشي بالتمهيد المنثور قبل كل حكاية ، وبالمواويل والمربعات التي عبدت الطريق إلي نص السيرة .