من التبسيط المخل الإدعاء بأن سوق النشر العربي مشابه لأسواق النشر الكبري في العالم، فشتان بين دور نشر تحولت إلي مؤسسات منظمة تعمل وفق آليات عمل واضحة وتقوم علي تقسيم العمل واحترام التخصص الدقيق، وبين أخري تعمل في بيئة ضاغطة معادية للثقافة ولا تنتشر فيها القراءة كعادة وسلوك يومي بدرجة كافية. وتكفي الإشارة إلي أن ما يُنشَر في مصر، مثلاً، في عام كامل (10643 كتاباً في 2014) أقل مما تنشره دار بنجوين-راندوم هاوس في الفترة نفسها، فالدار المذكورة تصدر 15 ألف كتاب سنوياً. لكن رغم هذا، أجازف بقول إن التحديات والمشكلات تتشابه، ولو ظاهرياً، بدرجة مدهشة. في أسواق النشر الكبري أيضاً الكتابات الخفيفة هي الأكثر رواجاً بدرجة تهمش الأدب الجاد بل توحي بتراجع إبداع ثقافة بكاملها، لدرجة أن النجاح غير المسبوق لسلسلة "خمسون ظلاً لجراي" دفع مثقفين بريطانيين لإطلاق حملة تُذكِّر القراء بأن الأدب البريطاني ليس كله جراي! في الغرب أيضاً تحول النشر الذاتي إلي ظاهرة، أو بالأحري إلي فعل احتجاج ضد سلطة دور النشر وحراس بوابة صناعة الكتاب؛ من يتملقون الذائقة السائدة ويشكلونها في آن، ويتعاملون بحذر مع الكتابة التجريبية والخارجة عن المألوف. وهذا يذكرنا بازدهار النشر الذاتي في مصر خلال عقد التسعينيات، حين اتجه كثيرون للنشر علي نفقتهم الخاصة احتجاجاً علي السقف المنخفض للنشر الحكومي، وعلي لجوء كثير من دور النشر المستقلة إلي تحميل المؤلفين نسبة من تكلفة نشر أعمالهم. من سلكوا هذا الطريق خلال التسعينيات أعلنوا مراراً أنهم في غير حاجة ل"لوجو" دار النشر، كما رأي بعضهم في مجلات "الماستر" في السبعينيات سلفاً له في التمرد والخروج علي المؤسسة الثقافية. غير أن ظاهرة النشر علي نفقة المؤلف سرعان ما خفتت مع توسع سوق النشر المصري وانتشار المكتبات الحديثة والاعتياد علي تعدد طبعات العنوان الواحد. لكن إن كان بعض المؤلفين في الغرب ينشرون ذاتياً تحايلاً علي الشروط الصعبة لسوق بالغ التنافسية واحتجاجاً علي حراس بوابة النشر التقليدي، فإن مفهوم حراسة البوابة يكاد يكون غائباً عن سوق النشر لدينا، أو بالأحري قد تكون جوانبه السلبية، ممثلة في تملق الذائقة التقليدية والبحث عن الربح والبعد عن المغامرة، فيما تغيب في معظم الحالات إيجابياته، والمقصود بها الانتقائية المعتمدة علي الجودة الفنية، ومراجعة الكتاب وتدقيقه وتحريره جيداً قبل إصداره، وأظنني لن أبالغ إذا قلت إن بعض الناشرين يصدرون أعمالاً لم يقرأوها أصلاً، ولم تمر علي عين محايدة لمراجعتها وتقييمها