"فقدت عذريتى" بهذه الكلمات افتتحت كلامها معى عبر الهاتف الجوال, دون سلام أو كلام أو حتى سؤال عن الحال, صديقتى التى أعرفها منذ زمن طويل, أعرفها كما أعرف نفسى و أكثر. لم أعرف للكلمات معنى, كانت حزينة تتدافع الكلمات من حنجرتها الصغيرة, لم أعرف وقتها ما العمل, ترددت , فكرت, ثم أجبت: أين أنت؟ أجابت فوراً, فى مقهى الأدب العربى, قلت: سأحضر حالاً, لازمى مكانك ولا تتحركى, ارتعبت خوفاً منها وعليها, لم أستطع التفكير لثانية واحدة, أعصاب الدماغ باتت مشدودة, تتدفق الدماء إلى كل خلية من خلايا جسدى الصغير. وصلت بسرعة فائقة, لم أصدق نفسى عندما عرفت أننى قطعت هذه المسافة الطويلة فيما يقل عن خمس دقائق, بينما يأخذنى بالعادة خمسة عشر إلى عشرون دقيقة. ما بك؟ سألتها, كانت جالسة فى مكان يطل على الشارع, عيناها مغرورقة بالدموع, وعلى شفتيها كلام كثير, بدأت بالحديث ناظرة إلى عينى, لماذا لا أكون أو نكون بالأحرى مثل تلك الفتيات؟ استغربت السؤال, قلت: من؟ , أشارت بيدها إلى فتيات مراهقات بعمر الخامسة والسادسة عشر, قلت: أأنت بخير؟ ما بك؟ وما بهن؟ هل أنت جادة؟ عاودت الحديث, أنا وأنت يا صديقى لم نعد كما كنا, لم نعد فتيات فى عمر المراهقة, ساذجات, نصدق ما نسمع, ونقول بما نفكر, نفعل ما نريد, لا نحلل, ولا نحسب أى حساب, لا نعرف, ولا تعرف أننا لا نعرف, ومع هذا كنا نعتقد بأننا نعرف الكثير. واليوم يا صديقتى ما عدنا كما كنا, عرفت الآن ما كانت تعنيه, جلست إلى جانبها على الجهة المقابلة لعينيها, نظرت فيهما, وكنت أعرف وتعرف بأننا لا نعرف لهذا الحال حلاً, فإننا بطبيعة الحال مثلها, ولكننى لم أقل حرفاً واحداً, تركت لها الكلام, أكملت: اليوم لا أستطيع أن أنظر ببراءة إلى الأشياء كما كنت أفعل قبلاً, ولا أستطيع إلا أن أحلل كل ما أرى, أفتقد سذاجة الزمن السابق, أفتقدنى, لا أستطيع إن رأيت امرأة أو رجلا يأكل بالشارع بنهم كبير، إلا ان أربط طريقة تناوله للطعام بمدى شهية هذا أو تلك للجنس, ولا أستطيع أن أترك سائق سيارة أجرة يتحدث فرحاً عبر الهاتف، ويبشر أحد أصدقائه بأن القانون لا يسمح لزوجته أن تمتحن للثانوية العامة إلا بموافقته, قلت له: من تحسب نفسك لتمنعها وأى قانون هذا الذى يسألك أن تسمح لها أن تمتحن؟ خلت نفسى يومها تدخلت كثيراً, تمنيت أن تقف حدود معرفتى, وأن أصبح كغيرى من الساذجين والساذجات الذين يعيشون دون تفكير ولو لثانية واحدة فى حياتهم. فتحت القراءة لنا أبواباً كانت مغلقة بسلاسل حديدية, عرفنا الفن والفلسفة والتاريخ والأديان والحضارات والطعام والفلكلور والرقصات والطقوس الغريبة للزواج والعزاء والآداب وغيرها الكثير. كيف لنا أن نعرف ولا نعرف, أن نحلل ولا نحلل, أن نكون ولا نكون, وهل تعود العذرية الفكرية إذا ما فقدت؟ هل لنا أن نعود للوراء ولو خطوة واحدة, هل لنا أن نعاود رؤيتنا للعالم كما كانت؟ سؤال ظل على حافة الجواب.