لا أتفق كثيرًا مع مقولة أن السُلطة مفسدة، ولكنى أرى بأن السلطة كاشفة مُبَيِّنة، بمعنى أنك إن أردت أن تعرف إنسانًا ماعلى حقيقته فأجلسه على كرسى الحكم، وإن أردت أن تستبين اتجاها فكريًا أو تنظيميًا معينًا فمكّنه من السُلطة.. السُلطة إذا تكشف الدوافع الحقيقة للتنظيمات السياسية وتخرج خبيئتها للعلن. كشفت السُلطة عن نبل وصدق وإيمان الخليفة عمر بن الخطاب الذى كان معروفا بالشدة والغلظة قبل السُلطة، لكن وطأة الإحساس بالمسئولية كشفت عن إنسان رقيق عادل، فاروق بين الحق والباطل، يفهم الدين فهمًا عبقريًا.. السُلطة أيضًا كشفت عن طهر ونقاء سريرة الخليفة عمر بن عبد العزيز الذى ما أن تولى المسئولية حتى ترك طواعيًة حياة الرفاهية والدعة وعاش زاهدًا عادلا يرعى مصالح شعبه من المسلمين وغيرهم ضد مصالح عشيرته من الأمويين. وفى التاريخ الحديث كشفت السلطة عن قادة عظام من أمثال جورج واشنطن القائد الأمريكى المغوار الذى ما أن خرج منتصرًا من معركة الاستقلال ضد الجيش الإنجليزى العتيد حتى عُرضَ عليه أن يتوج ملكًا على أمريكا أو أن يحكمها مدى الحياة فرفض رفضا قاطعا، وأبى إلا أن يُنشئ دولة عصرية ديموقراطية قوامها القانون والحرية والعدل، كما أنجز لأمريكا دستورًا عبقريًا متقدمًا كان ولا يزال محل توافق وإجماع كامل. وبعد أن أنهى مُدَّتى حُكمه، عاد إلى بيته كمواطن عادى بعد أن وضع امريكا على بداية طريق السبق الرقى والتقدم. السُلطة أيضًا كشفت عن عبقرية وإخلاص أبراهام لينكولن المحامى النابغ الذى وَحَّد أمريكا كلها وقادها تحت رايات النُبل والإنسانية والتحرر. بنى مشروعه السياسى كله على رغبته الصادقة فى تحرير العبيد، الذين كانوا عصبًا للاقتصاد الأمريكى وقتها ولكن رؤيته وحِسُّه الإنسانى الرفيع أقنعه بأن الاستعباد يمثل وصمة عار تشوه وجه أمريكا كمنارة للحرية وأن رفعة أمريكا وريادتها تقترن بما تُقدمه للعالم من نموذج انسانى وأخلاقى. ومن ناحية أخرى كشفت السلطة للشعب الألمانى عن الوجه القبيح للحزب النازى وزعيمه هتلر الذى أسمعهم حلو الكلام وأغرقهم فى الأمانى والشعارات البراقة ليستثير مشاعرهم القومية حتى تمكن منهم ومن الحكم منتهيًا إلى تدمير ألمانيا بالكامل، السُلطة كشفت زيف كثير من الحركات الشيوعية حول العالم حتى سقطت كلها تقريبا فى التسعينيات، السُلطة كشفت مخاطر الحكم الدينى فى السودان وأفغانستان والصومال وإيران وأظهرت أن تجار الدين مستعدون لممارسة الرذائل كلها من أجل السلطة .. لا يتورعون عن تقسيم البلاد .. أو أن يسوموا شعوبهم سوء العذاب ويذيقونهم لذع المجاعة وذل المهانة باسم الدين. ولا أعتقد أن أحدًا يختلف على حقيقة أن الحرية قرينة الرخاء وأن الاستبداد قرين التخلف، ونستطيع أن نستدل على هذا بنظرة سريعة على الدول التى تنتشر فيها المجاعات والأمراض حول العالم فنجدها كلها ترزح تحت نيران إستبداد قمعى، إما عسكرى أو دينى أو عشائرى. ولا أظن أن ممارسة السلطة فى حد ذاتها مدعاة للاستبداد، إنما أصل الإستبداد كما يرى كثير من علماء النفس والسياسة يكمن فى سيطرة مجموعة متداخلة من الأفكار المتطرفة ذات الطبيعة العقائدية على جماعة ما. وعندما تُعيد تلك الجماعة صياغة هذه الأفكار كأسس للحق المطلق الغير قابل للمناقشة أو التمحيص، تتملكهم عقيدة الاستحقاق الدائم للحكم وليس التكليف المؤقت المشروط .. ومع الوقت تمتزج تلك الثقافة الإستبدادية بشخصية أفراد الجماعة إمتزاجًا شديدًا حتى يتحولوا هم أنفسهم إلى مستدبين ومستبد بهم، يضيقون بالنقد والنقاش رافضون مخاصمون لكل من يخالفهم الرأى وفى نفس الوقت تجدهم يستسيغون فكرة التسليم للقائد مستسلمون لأوامره ونواهيه .. ثم يحتضن التنظيم ذلك المزيج الفكرى الثقافى ويرعاه من خلال تَراتُبية تنظيمية حديدية تُأصِّل لفكرة الإمتثال الكامل والإذعان. تهبط الأوامر والتكلفيات من قمة هرم التنظيم إلى قاعه فى سلاسة ويسر، وتنفذ حرفيا دون تمحيص أو إعتراض .. وبالممارسة الطويلة والتدريب يقتنع أفراد الجماعة بكلية المنطق التراتبى الصارم وشمولية فكرة الإذعان ووجوب تطبيقها فى كافة مناحى الحياة ومؤسسات المجمتع. ينجح التنظيم أيضًا فى غرس هواجس الخوف فى نفوس أتباعه.. الخوف من سخط القائد .. الخوف من مغبة ترك الجماعة .. الخوف من التنوع العرقى والدينى .. الخوف من الأقليات ... الخوف من الحرية ..الخوف من شؤم المخالفة .. الخوف من دخول النار .. حلقات من الخوف بعضها فوق بعض تُكبل العقل .. وتسحق الوجدان .. تجعل من الأتباع عجينة منصهرة لدنة يسهل تشكيلها ونحتها لما يصب فى مصلحة الجماعة. وما أن تصل تلك التنظيمات إلى السُلطة حتى تبدأ فى تصدير هواجس الخوف للمجتمع كله من خلال إرهابه بكل الطرق، إما بالنار وسخط الله وإما بالسيف والمقصلة. ومن أجل هذا تحاول تلك التنظيمات، بمجرد وصولها للسُلطة إلى السيطرة الكاملة على مفاصل المجتمع خاصة التشريع والقضاء والإعلام والشرطة كأدوات إرهاب وترويع.. ومن الخصائص المميزة أيضًا لتلك التنظيمات هى تبنيها لفكرة غريبة إلى حد ما وهى فكرة العدو المبهم الغير محدد المعالم، على نحو يجعل تعريف العدو مطاط ومُغبَّش، يمكن تفصيله بسهولة على مقاس أى مخالف للجماعة أو الحزب، كما يسهل إعادة تعريفه فورا فى حالة انصياعه للجماعة والترويج لها. هذا ما كشفه التاريخ عن ممارسات تلك الجماعات حين تصل للسلطة. إن الجرائم التى ترتكبها الأنظمة الاستبدادية ضد شعوبها تتجاوز بكثير ما يرتكبه اللصوص وقطاع الطرق من جرائم يومية على نحو يجعل الدولة فى تلك الحالة أخطر على المواطن العادى من المجرمين المتمرسين فى الإجرام. فى ظنى أن التحول الذى نراه الآن فى مواقف الكثيرين قبل وبعد السلطة وحنثهم بوعودهم وخداعهم لناخبيهم لا يعكس طبيعة إفسادية للسلطة بقدر ما يعكس طبيعة الفساد والإنتهازية والاستبداد الذى يعترى تلك التنظيمات السياسية.. طبيعة لم يكن من الممكن أن تتعرى إلا فى أضواء السلطة الكاشفة..