يتطلب زمن الأزمات الكبرى بعض الخروج على طرق المواجهة التقليدية لها، ولعلها المرة الأولى، فى تاريخ الفكر الاقتصادى، التى يتم فيها ربط السياسة النقدية ليس بالنمو أو التضخم، وإنما بأحد مؤشرات النمو، أو رقم البطالة. ففى مؤتمر صحفى لرئيس بنك الاحتياط الفيدرالى "بن برنانكي"، ذكر أن السياسة النقدية ستبقى توسعية، بسعر فائدة قريب من الصفر، حتى ينخفض معدل البطالة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى ما دون ال 6.5%، وكان فى نهاية شهر نوفمبر 2012 بحدود 7.7%. وتزامن الإعلان، الذى جعل من الممكن لأى إنسان التنبؤ بقرار تغيير سعر الفائدة لوجود وسيلة قياس معلنة، وزيادة جرعات التيسير النقدى بنحو 45 مليار دولار أمريكي، شهرياً، لتصبح 85 مليار دولار أمريكى. ويبدو أن بنك الاحتياط الفيدرالى -المركزى الأمريكي- بات قلقاً من وضع الهاوية المالية الأمريكية، والتى تتطلب مواجهتها سياسة مالية انكماشية، صلبها هو خفض النفقات العامة وزيادة الإيرادات العامة بزيادة الضرائب. وفى زمن النمو الاقتصادى الهش، قد تؤدى السياسة المالية الانكماشية إلى عكس المطلوب منها، أى الدفع باتجاه الركود -النمو السالب- بتبعاته على خفض مستوى الإيرادات، أيضاً، والركود هو عدو رئيس للبنوك المركزية. وما يسعى إليه الفيدرالى الأمريكي، هو احتواء الآثار المحتملة للسياسة المالية الانكماشية بتبنى سياسة نقدية شفافة، من جانب، وشديدة التوسع، من جانب آخر. وفى الوقت نفسه، أعطى هذا الإعلان دوراً أكبر، كثيراً، للبنك المركزى فى مواجهة الأزمة، وذلك مؤشر غير مباشر على ضعف ثقته فى مواجهة حكيمة، تأتى من السياسيين. ولكى يتضح مدى شفافية تلك السياسة، يتوقع الفيدرالى الأمريكى أن يهبط مستوى البطالة فى الربع الأخير من عام 2013 إلى ما بين 7.4-7.7%، ذلك يعنى أنه يتوقع استقرار سعر الفائدة، ثابتاً وقريباً من الصفر، إلى ما بعد نهاية عام 2013. ويتوقع لمعدلات التضخم للسنة الحالية حدود ال 1.6%، ترتفع إلى 1.9% فى عام 2013، وذلك يعنى أن سعر الفائدة الحقيقى سالب، وسوف يزداد انخفاضاً فى عام 2013 وما بعد، أى إمعاناً فى توسع السياسة النقدية، وسوف يظل كذلك ما دامت معدلات التضخم لم تتجاوز حاجز ال 2.5%. وأكد تقرير شركة "الشال" للاستشارات المالية والاقتصادية أن الأزمات غير التقليدية،تحتاج أحياناً إلى مخارج وحلول غير تقليدية، وتخلى الفيدرالى الأمريكى عن أكثر أدوات السياسة النقدية أهمية -سعر الفائدة- بربطها بهدف معلن يمكن للجميع أن يتابعوه، هو سياسة غير تقليدية. وينوى محافظ بنك إنجلترا المركزي، الجديد، "مارك كارني"، الذى يتولى منصبه فى الصيف القادم، اتباع نهج "برنانكي" غير التقليدي، وربط سعر الفائدة بمعدل البطالة. ولكنها سياسة محسوبة، فمصمموها من مدرسة تشبعت بأدبيات كساد عام 1929، ومعظمهم على اتصال لصيق بنظرائهم المؤثرين حول عالمنا الحاضر، وضمن هذه السياسات وزن استباقى أكبر يتعامل مع واقع القرارات السياسية، والتى قد لا تكون حصيفة، حماية للمستقبل. وتتعرض دولنا إلى أزمة عالم، وأزمة إقليم، وأزمات محلية، وصناعة الدول تتطلب رؤى وسياسات غير تقليدية، فى مثل هذا الزمن، إحداها هى التخلى عن اختزال الدولة فى الحكومة، وذلك ما لا يحدث.