هناك عدة أنظمة للحكم منها الرئاسية والبرلمانية وشبه الرئاسية ونصف الرئاسية وشبه البرلمانية والبرلمانية المعدلة وخلافه. ولكن دستورنا العزيز المطروح للاستفتاء الآن استحدث نظاماً جديداً لم يسبقه إليه أحد من العالمين. وهو نظام المرجيحة!! فقد ذكرت المادة (139) أن يختار رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس الوزراء، وهو نظام رئاسى أو شبه رئاسى طبقاً للصلاحيات. فإن لم يحصل على ثقة مجلس النواب، يكلف رئيس الجمهورية رئيساً آخر لمجلس الوزراء من الحزب الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب، وهو نوع من الأنظمة البرلمانية. فإن لم يحصل على الثقة مرة ثانية يختار مجلس النواب ذاته رئيسا لمجلس الوزراء ويكلفه رئيس الجمهورية، وهو نوع ثانٍ من الأنظمة البرلمانية، فإن لم يحصل على الثقة يحل رئيس الجمهورية مجلس النواب. وهو ما يجعل نظام حكمنا فى بعض الأوقات شبه رئاسى ثم يكون برلمانيا معدلا ثم قد يعود شبه رئاسى مرة أخرى!! وهو ما سيجعل نظامنا يتحرك بنظام المرجيحة بين الأنظمة المختلفة. وللأسف الشديد حتى هذه المرجيحة لن تكون بطريقة منتظمة ولا متوقعة مسبقا!! وهو ما سيجعل هناك استحالة لوضع برامج انتخابية للرئاسة ولا لأعضاء مجلس النواب لعدم معرفة نظام الحكم الذى سيكون فى الفترات القادمة. فضلاً عن صعوبة تطبيق البرامج الانتخابية المستهدفة منهم، واستحالة محاسبتهم على عدم تحقيقها لتأرجح نظام الحكم فى الدولة بدون أى قاعدة أو نظام. والنظام البرلمانى المعدل الذى يكون فى حالتين من ال 3 حالات المذكورة سابقاً، له كثير من العيوب التى لا تناسبنا، وستؤثر على استقرار المجتمع وإنهاء حالة الصدام الموجودة فيه، وللتوضيح فإن للنظام البرلمانى مساوئ لا أظن معها أنها تناسبنا حيث إن مجلس النواب هو من يعين الحكومة، وعادة من حزب أغلبيته، فهو إلغاء للفصل بين السلطات وشبه دمج بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وما تعنيه من إلغاء رقابة مجلس النواب على الحكومة من الناحية الفعلية، لأنها حكومة حزب أغلبية. فسيوقف أى مساءلة لها. وفى بعض الحالات التى لا يحصل فيها حزب على الغالبية، يضطر حزب الأكثرية للخضوع لابتزاز أحزاب صغيرة للوصول إلى ائتلاف معها لتشكيل الحكومة، مثل تحالف حزب الليكود الإسرائيلى مع حزب شاس المتطرف، واضطراره لإصدار قوانين وقرارات لإرضاء ذلك الحليف، بل وتعيين متطرفا منه مثل ليبرمان ليكون وزيرا لخارجيته. وقد يصل الحال فى حالة فك هذه الائتلافات إلى حل الحكومة، بل وحل مجلس النواب ذاته، وإعادة الانتخابات. وكلنا يرى ما يحدث فى إيطاليا من تكرار للانتخابات لهذه الأسباب، فهل نحن على استعداد لهذا؟! أما بالنسبة للنظام البرلمانى المعدل، فإن له مساوئ أخرى، بالإضافة لما سبق فإنه سيكون هناك رئيسان للسلطة التنفيذية وهما رئيس السلطة التنفيذية ورئيس الحكومة. فيلاحظ أن رئيس مجلس الوزراء أصبح هو رئيس الحكومة المادة (155) من الدستور. أما رئيس الجمهورية فهو رئيس السلطة التنفيذية المادة (132). مما سيجعل هناك احتمالية تصادم بين مصالح رئيسى السلطة التنفيذية، لانتمائهما لأحزاب ورؤية سياسية مختلفة. وهو ما عرف فى السياسة الفرنسية "بمشكلة التعايش المزدوج"، وحدث عندما كان رئيس الجمهورية اشتراكيا (ميتران)، فى حين أن البرلمان قام باختيار رئيس يمينى رأسمالى لمجلس الوزراء وهو (شيراك). وهى نفس أسباب ما يحدث من صدام فى تونس الآن بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. فهذا النظام يدفع فى الغالب الأعم برئيس الجمهورية ليكون دوره شرفياً أو مجرد اعتراضياً للحد من هيمنة الحكومة على السلطة التنفيذية وعلى مفاصل الدولة. وذلك من خلال تحكمها فى السلطة التنفيذية ومساندة السلطة التشريعية لها، وإقرارها للقوانين التى تعينها من خلال مجلس النواب، وحتى فى حالة معارضته لبعض هذه القوانين سوف يضطر لإصدارها إذا أعاد مجلس النواب إقرارها بالأغلبية المطلوبة، فلو أضفنا إلى هذا الوضع التصادمى بين رئيسى السلطة التنفيذية، حالة عدم الاستقرار والوضع التصادمى بين جميع أطياف المجتمع، لوجدنا أننا مقبلون على كارثة وعدم استقرار لسنوات. والأخطر بعد هذا، أننى كنت أظن أنه حدث خطأ بالدستور حيث لم يشر الدستور لصلاحية رئيس الجمهورية فى إعفاء رئيس مجلس الوزراء كما كان فى الدساتير السابقة!! ولكنى أظن الآن أنه تم حذفها تعمدا مما سيعنى أنه ليس هناك صلاحية لأى فرد على إعفاء رئيس مجلس الوزراء من منصبه، حتى لو لم يكن كفئاً، وبالتالى تقويته أمام رئيس الجمهورية، وعزله سيتم فقط بسحب الثقة منه من خلال مجلس النواب الذى اختاره ومن حزبه الذى يدعمه!! ولو أضفنا إلى هذا النظام الانتخابى لمجلس النواب فى مشروع الدستور، وهو بنفس النسبة السابقة من الثلث والثلثين للفردى وللقوائم، أى بنفس حجم الدوائر السابقة. سنجد أنه رغم فتح باب المنافسة للمستقلين مع الأحزاب فى القوائم والفردى، ولكن المنافسة لن تكون متكافئة بين أفراد وأحزاب، بما لها من قدرة مالية وأعداد بشرية فى جميع الأحياء، وهو ما سيعنى حصولها على معظم إن لم يكن كل مقاعد مجلس النواب، بل إن خروج المستقلين بهذه الطريقة من المعركة الانتخابية سيصب فى صالح الحزب الوطنى - لو وحد قواه - والأحزاب ذات المرجعية الدينية فى حصولهم على غالبية المقاعد، وذلك بسبب عدم وجود شعبية لغالبية الأحزاب الأخرى وعدم وجود أعضاء لها على علم حقيقى بالشارع السياسى ولا تملك القبول الشعبى، مما سيعنى إمكانية حصول فصيل واحد منفصلا أو بالائتلاف مع فصيل آخر على غالبية مقاعد مجلس النواب، ويتولى قيادة كامل الدولة، وسيكون دور رئيس الجمهورية شرفيا أو صدامياً بلا تأثير، فسيفرض هذا الفصيل على رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الوزراء من حزبه ويتم الإمساك بزمام الدولة تنفيذيا وتشريعيا ورقابيا. ولن يستطيع رئيس الجمهورية إعفاءه من منصبه أو وقف أى تشريعات يريدونها. مع إلغاء المعنى الحقيقى للفصل بين السلطات، ورقابة مجلس النواب على الحكومة، فلن يراقب نفسه. لذا فمع اقتناعى بضرورة وجود دستور واعتراضى على جبهة الإنقاذ الوطنى لعدم التحاور وللمقاطعة، وهو ما يظهر بكتاباتى وبالإعلان السياسى الذى نشرته بجريدة أخبار اليوم فى 1/12/2012 تحت عنوان "رحمة بوطننا"، واستعدادى للتنازل عن بعض الآمال من أجل تحقيق البعض الآخر وإصلاح أى عوار فى الدستور لاحقا. لكننى لا أستطيع قبوله الآن ل 3 نقاط، وما ذكرته "عاليه" هو أخطرها. لذا فإننى إذ أوضح خطورة الدستور الحالى، أناشد جبهة الإنقاذ الوطنى بالمشاركة فى الاستفتاء، والتوعية بخطورة الدستور المطروح. ليس بالأسباب الضعيفة أو غير المنطقية أو إنصاف الحقائق التى يذكرها بعض متحدثيهم، ولكن للأسباب القوية والخطيرة فيه، مثل بعض ما ذكرته بهذا المقال ومقالاتى السابقة وغيرها. فإن مقاطعتكم سوف تفقدنا جزءا من الأصوات المعارضة، ولن تصب فى مصلحة الوطن، ويكفى ما قد أصابنا من ضرر آخر بإشغالكم لنا فى الأيام الماضية عن مراجعة النسخ النهائية للدستور، ثم برفضكم قبول عرض رئيس الجمهورية بتأجيل الاستفتاء شريطة عدم الطعن عليه قضائيا لمخالفة هذا التأجيل دستوريا، مما أفقدنا فرصة أكبر لمناقشة الدستور وتوضيحه للمواطنين. وختاماً فإن النظام البرلمانى المعدل يتسبب فى كثير من المشاكل بالدول الراسخة فى الديموقراطية، فما بالنا بمحدثى الديموقراطية، فضلا عن عدم مناسبته لظروفنا الحالية ولا للأفعال التصادمية والرافضة لكل شىء والموجودة الآن، وسيزيد الأمر سوءاً هو نظام المرجيحة الذى تم اختراعه، وكلاهما جد خطير.