أعجب لمن يحسب أن فى رجال يوليو وخلفائهم من يعير اهتماماً حقيقياً للديمقراطية والفكر الليبرالى وتداول السلطة وتوازن السلطات، إلى غير ذلك من مفاهيم يصعب أن تنمو فى ثكنة عسكرية.. نعم فحينما عزف الجيش عن العودة إلى ثكناتهم بعد أحداث فبراير ومارس عام 1954 تحوّلت مصر كلها إلى ثكنة عسكرية كبيرة تسودها أحكام عرفية قاسية وتراتبية جندية سقيمة، تطمس أى مقام للعلم والعلماء والمفكّرين وتضع على رأس هرم الدولة بندقية وعربة مصفّحة تجوب شوارع القاهرةالمحتلة وتقذف فى قلوب سكّانها الرهبة والرعب. كل شئ فى مصر أصبح عسكرياً إلا السلوك العام الذى خلا من أى انضباط للعسكريين، وقس على ذلك أموراً عدة، فانتقائية أصحاب اللون الأبيض (فى العلم المصرى العجيب) جعلت منهم ترزية فى كل شئ يفصّلون البلد لتناسب أذواقهم ومقاساتهم بدءًا بالدستور والقوانين وانتهاءً بتخطيط الشوارع والطرق بجوار قصورهم ومنتجعاتهم لتناسب أمزجتهم ومواكبهم.. ومن أفشل النظريات التى عجز عن ترويجها سدنة حكم ما بعد.. بعد يوليو (مع الاعتذار للسيد حسن نصر الله) كانت نظرية الريادة على اختلاف أوصافها سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم إعلامية أم ثقافية.. وهى نظرية استخدمت لأعوام طوال بغرض إلهاء شعب مصر عن شئونه الداخلية حتى تصدرت أخبار العرب والعجم والقاصى والدانى كل نشراتنا الإخبارية تاركة مساحة هزيلة فى ذيل كل نشرة للحديث عن افتتاح مكتبة أو زيارة لمصنع كأن كل شئون البلاد قد اختزلت فى أخبار ونشاطات هذا الفاتح المفتتح العظيم!. والغريب أن بعض المتشدقين بالريادة البائدة مازالوا يلوكونها فى أفواههم وفى مقالاتهم بالصحف البيضاء (تذكّر أنهم احتكروا اللون الأبيض) وكأنهم يخاطبون قوماً آخرين، وكأننا من فرط صمتنا وعجزنا صرنا غير منظورين. ربما سأل سائل عن سبب الربط بين العهد البائد والبلد الرائد، فكلاهما زيف وتدليس أريد به تخدير الشعوب، فلا العهد البائد كان بهذا السوء الذى ظلوا يروّجون له زهاء النصف قرن. وإن كان كذلك فهو بلا شك خير ألف مرة من هذا العهد السائد. كما أن البلد الرائد قد بالغ فى توصيف ريادته، ثم تاجر بها، ثم تنازل عنها عند أقرب متجر يبيع شرق أوسط جديد. والمحصّلة النهائية شعب يتوق إلى التحرير وإلى العودة إلى ما قبل.. قبل يوليو مع قليل من الإصلاح، فهل من مجيب؟