الأمريكي بكام دلوقتي؟.. سعر الدولار اليوم الثلاثاء 21 مايو في مصر    خالد عبد الغفار: مركز جوستاف روسي الفرنسي سيقدم خدماته لغير القادرين    بايدن: ما يحدث بغزة ليس إبادة جماعية ونرفض اعتقال قادة إسرائيل    شهداء وجرحى جراء غارة إسرائيلية على منزل لعائلة "أبو طير" شرق خان يونس    ضياء السيد: فوز الزمالك بالكونفدرالية سيمنح لاعبيه ثقة كبيرة    اليوم.. طلاب الشهادة الإعدادية بالشرقية يؤدون امتحان مادة الهندسة    ارتفاع شديد في درجات الحرارة.. حالة الطقس اليوم    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    وزير الصحة: لا توجد دولة في العالم تستطيع مجاراة الزيادة السكانية ببناء المستشفيات    الصحة تعلن توافر الأدوية والمستلزمات الطبية خلال أشهر    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    سيناتور روسي: في غضون دقائق أوكرانيا ستكون بدون رئيس    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    كأس أمم إفريقيا للساق الواحدة.. منتخب مصر يكتسح بوروندي «10-2»    على باب الوزير    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجيش والدستور
نشر في اليوم السابع يوم 23 - 07 - 2012

تاريخيا لم يعد هناك مجال لمناقشة أهلية الحكم العسكرى للتقدم والنهضة بأى بلد كان، تجارب التاريخ علمتنا أن الحكم العسكرى كان قرين التخلف والجمود والتراجع وغالبا الظلم والقهر، وكما ستشرح السطور التالية فإن القوى العظمى استغلت هذه الحقيقة التاريخية وربما العلمية أيضا لصالحها دون مصالح الشعوب التى يضعون على رأسها حكما عسكريا شموليا، فهى بالنسبة لهم ضمانة لتخلف تلك الشعوب عن ركب التاريخ وبقائها كمراكز لنفوذها المطلق، وبقائها كمواد أولية من الخامات التى تؤمن استمرار حضارتها، وكمواد أولية من البشر الذين لا يستطيعون تحريك ساكن فى وجه استغلالها من القوى العظمى.
فى إحدى الأمسيات فى صباى شاهدت ضيفى برنامج (النادى الدولى) العالمين اللامعين العائدين من الولايات المتحدة الأمريكية فى إجازة، وتحدثا على أن الفارق الحضارى بين أمريكا وأوروبا 25 عاماً والفرق الحضارى بين أوروبا ومصر حوالى 200 عام أى أن الفارق بين أمريكا ومصر حضارياً 225 عاماً وإذا كانوا حقا يمتلكون هذا الفارق الحضارى، فهم كائنات أعلى تستبق رؤية مستقبلنا وتشكله بما يمكن أن تسميه صناعة الأقدار، والقدر الذى اختاروه لنا أن نبقى بلاداً للمواد الأولية من البشر والخامات .
والعلامة الفارقة فى تاريخ مصر الحديث كانت ثورة 1919 وأهم ما فيها هو تكوين رأى عام قوى ضاغط ومغير للأحداث بعد أن ألهبت الوعى السياسى لكل طبقات الشعب حتى العائلات الثرية التى كانت محسوبة على القصر والاحتلال الإنجليزى حتى هذه العائلات شاركت فى الثورة، وإخواننا المسيحيون الذين غازلهم الإنجليز بدولة منفصلة وإغراءات يسيل لها لعاب أى طائفة خيبوا ظن الإنجليز وانضموا للثورة وأهم ما رسخته ثورة 1919 هو انتصار الإرادة الشعبية والدستور وتداول السلطة فى مواجهة الإمبراطورية المحتلة والحكم الفاسد.
ولن يخرج تقدم ورفعة أى بلد واستقلاله الحقيقى فى تحقيق مصالحه الوطنية عن هذه القيم الثلاثة، الدستور – الإرادة الشعبية – تداول السلطة.
وبرغم ما اعترى المناخ السياسى فى مصر من ضعف شديد قبل الثورة إلا أن ما رسخته ثورة 1919 من قيم سياسية كان ولا بد أن يقفز بنا إلى مصاف الدول العظمى فى العالم لو استمرت هذه القيم، ولكن ما حدث أنه تم عرقلة ذلك التطور الحتمى والمنشود بنشر مجموعه من الحكومات العسكرية فى المنطقة العربية وبالأخص مصر وهذه العرقلة أو الاستباق لم يكن اتفاقات تآمرية مباشرة بقدر ما كان إتاحة المناخ بظهور هذه الحكومات العسكرية التى تضمن لأمريكا بوجودها إنهاء قيم التقدم التى رسختها ثورة 1919وتبقينا فى دوائر التخلف ستون عاماً من العزلة عن تقدم العالم والعيش الكريم و الاستقلال السياسى الحقيقى وهو نفس ما فعلته فى دول أمريكا اللاتينية التى ما أن تخلصت بعض بلدانها الهامة من الحكم العسكرى حتى لحقت بأعظم دول العالم وخرجت من العزلة فى تحول أسطورى لا يصدق .
لم يكن مصادفة أن تبدأ مصر انقلابا عسكريا يتحول إلى ثورة فحكم عسكرى ثم تتوالى الحكومات العسكرية فى الدول ذات الكثافة السكانية العالية والتأثير الفكرى القوى، كمصر وسوريا والجزائر والسودان وليبيا ومن قبل العراق، ولم تكن يدهم بعيدة عن هذه التحولات،كان معلوما لديهم أن ما سيحدث فى مصر سيأخذ مجراه وصولا إلى نفس النتيجة فى محيطها العربى.
أبقت أمريكا أيضا على الدول العربية الغنية بالبترول كممالك حتى تضمن نظام ثابت لتدفق الموارد النفطية دون صداع البرلمانات أو النظم النيابية بعامة التى لا تكف عن التعديل والتبديل بما يفيد البلاد أقصى إفادة من مواردها فإرضاء عائلة أسهل بكثير من إرضاء شعب.
وفيما يخص مصر فنحن نرصد اللحظات الأخيرة للقضاء على قيم الوفد وإتاحة المناخ للحكومات العسكرية، بما يضمن تخلف البلاد والعباد والدور الأمريكى موثقاً فى هذه الإتاحة.
(2)
مثلت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول حاسمة فى توجهات الولايات المتحدة الأمريكية نحو الشرق الأوسط نتيجة لتمركز مصالحها فيه، وظهور ما يسمى بالتهديد الشيوعى لهذه المصالح، نظرت للشرق الأوسط من خلال متطلبات (السلام الأمريكى) الذى يجب انتزاع حمايته من بريطانيا وفرنسا بسبب تفكك نفوذهما فيه، وبما أن مصر قلب هذه المنطقة فقد عدتها الإدارة الأمريكية مفتاحاً لأى إستراتيجية ناجحة فى الشرق الأوسط.
والبدايات الأولى للتدخل الأمريكى فى الصراع جاء بطلب مباشر من بريطانيا 1946حيث طلبت الحكومة الأمريكية من الملك فاروق أن يحث حكومته على أن تكون أكثر تساهلاً فى مفاوضاتها مع بريطانيا، أى أن تجبر واشنطن مصر على احتفاظ بريطانيا بقواعدها العسكرية فى قناة السويس، وفصل مصر عن السودان وإعطاء السودان حق تقرير المصير وهى ما سميت بالقضية المصرية، ولم يستطع الملك فاروق أن يلبى مطالب واشنطن وأبلغهم أن الوقوف إلى جانب هذه المطالب يعنى سقوطه أمام الرأى العام الشعبى من هذه القضية والذى خلقه حزب الوفد.
شكل مصطفى النحاس حكومة جديدة فى يناير 1950وكان شعار حملته الانتخابية هو جلاء القوات البريطانية عن مصر وتحقيق وحدة وادى النيل تحت التاج المصرى أى إعلان فاروق ملكا على السودان.
وكمشروع بديل لطلبات النحاس باشا التى كانت تمثل المطالب الوطنية اقترح هربرت موريسون وزير الخارجية البريطانى على الإدارة الأمريكية 1951 إنشاء حلف باسم قيادة الشرق الأوسط يتخذ مصر مقراً له وتشارك فيه مصر وبريطانيا وفرنسا وتركيا وإنجلترا لحماية مصالح الغرب فى منطقة الشرق الأوسط وتتغاضى مصر عن اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول العربية التى بمقتضاها يجب أن تدافع عن فلسطين فى مواجهة إسرائيل حتى لا تبقى إسرائيل إقليما معزولاً فى المنطقة.
أيدت الإدارة الأمريكية الاقتراح واعتبره النحاس التفافاً على المطالب الوطنية واستبدال احتلال دولة واحدة بعدة دول ويأس من المفاوضات مع البريطانيين فعقد العزم على انتزاع سيادة مصر من بريطانيا بغض النظر عن النتائج المترتبة على ذلك فألغى معاهدة 1936 واتفاقيتى السودان 1899وأعلن الكفاح المسلح فى قاعدة قناة السويس والذى كبد الإنجليز خسائر فادحة، وأخذ موافقة بالأغلبية من البرلمان المصرى بعد بيان تاريخى ألقاه فى مجلس الشيوخ (والذى كانت أغلبيته وفديه واستمر كذلك حتى فى الحكومات الأربعة التى عقبت حكومة النحاس).
بدأت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ مخطط دقيق للإطاحة بحكومة مصطفى النحاس، فوجهت القوات البريطانية ضربة قوية لقوات الشرطة المصرية فى الإسماعيلية حيث قتلت عددا كبيرا منهم وجرحت الباقى من القوات، وعلى أثره اندلعت مظاهرات حاشدة فى شوارع القاهرة واندست بينها عناصر مشبوهة لتنفذ حركة تخريب أعدت سلفاً فتعرضت بعض المؤسسات الأمريكية ودور السينما والملاهى التابعة للبريطانيين واليهود والأمريكيين وبعض المصريين إلى الحرق والنهب والتدمير وقد عرف ذلك اليوم بيوم السبت الأسود.
ألقت الحكومة الأمريكية مسئولية الحريق المعروف بحريق القاهرة على عاتق حكومة الوفد، كما أعلن فى واشنطن أن كافرى السفير الأمريكى فى القاهرة يعمل بجد لإقصاء حكومة الوفد التى أعلنت حالة الطوارئ فى البلاد، وفى 27 يناير قدم النحاس استقالة حكومته وتم تكليف على ماهر بتشكيل الحكومة الجديدة والذى اعتبره السفير الأمريكى كافرى الأمل الأخير لحل تدهور الموقف فى مصر.
(3)
بعد إقالة النحاس بسبب حريق القاهرة تم تكليف على ماهر بتشكيل الحكومة الجديدة والذى اعتبره السفير الأمريكى كافرى الأمل الأخير لحل تدهور الموقف فى مصر وعلى مدى أربع حكومات لعلى ماهر ونجيب الهلالى وحسين سرى ثم نجيب الهلالى ثانيةً قبل الثورة بساعات، لم تستطع أى حكومة منهم ولا الملك الذى أجبرته الإدارة الأمريكية على أمر هؤلاء بتشكيل الحكومات والذين تعتبرهم موالين لها، الخروج عن المطالب الوطنية التى خطها الوفد.
لسيطرته على الرأى العام ولأغلبيته فى البرلمان حتى فى ظل هذه الحكومات إلى الحد الذى دعا برتون برى وكيل مساعد وزير الخارجية الأمريكية إلى الطلب من حكومته بالتخلى عن مساندة بريطانيا حتى لا تكون أمريكا هى العدو الأول للشعب المصرى على حد تعبيره، ولعل مذكرته الآتية التى بعثها إلى وزير خارجيته اتشيسون هى خير تعبير عن هذا التحول عن مساندة المطالب البريطانية المطلق والذى أجبره عليه الوعى الشعبى الذى خلقته ثورة 1919 لدى الشعب المصرى والوعى السياسى لزعماء الوفد.
حيث ختم المذكرة بطلب الآتى:
1-حث بريطانيا على الوصول لحل لقضية السودان.
2-حث بريطانيا على سحب جزء من قواتها من القناة.
3-أعربت عن رغبتها فى الدخول فى مناقشات خماسية القوى إذا وافقت مصر على ذلك.
وكان هناك خلاف بين السفير الأمريكى كافرى وضابط المخابرات الأمريكى كيرميت روزفلت (الذى ترأس اللجنة التى شكلها وزير الخارجية اتشيسون لدراسة الوضع السياسى فى مصر) حول من يتولى السلطة بعد حكومة النحاس كان رأى كافرى أن يتولى على ماهر ورأى كيرمت روزفلت أن يتولى نجيب الهلالى ولكن فى مايو 1952 وافق كيرمت روزفلت على رأى جفرسون كافرى على أن الجيش المصرى وحده هو الذى يستطيع مواجهة الموقف المتدهور فى مصر وإقامة حكم تستطيع الدول الغربية أن تتعامل معه فى حدود المنطق والمعقول، وتم الاتفاق على أن العلاقات المقبلة بين الحكومة المصرية الجديدة التى ستتألف بعد الانقلاب والحكومة الأمريكية يجب أن تقوم على أساس شعارات للإعلان فقط، على أن يكون مفهوماً بصورة ضمنية أن الشروط اللازمة لذلك الحكم الديمقراطى لم تتوفر بعد وهى لن تتوفر لسنين قادمة.
عاد كيرمت روزفلت إلى واشنطن قبل شهرين من الانقلاب وقدم إلى وزير الخارجية الأمريكية دين اتشيسون تقريرا ورد فيه النقاط الآتية.
1-لم يعد هناك أى احتمال يحول دون وقوع ما يرجوه المخططون فى وزارة الخارجية وأن الجيش سيقوم بانقلابه القريب.
2-على الحكومة الأمريكية أن تحجم بعد الانقلاب عن محاولة إقناع العسكريين بإجراء انتخابات أو إجراء حكومة دستورية.
أى أن الهدف من قيام هذه الحكومة العسكرية إنهاء الحالة الديمقراطية والحالة الدستورية التى خلقها الوفد والتى وقفت حائلاً بينهم وبين مصالحهم فى المنطقة وأجبرت حتى من يعتبرونهم موالين لهم مثل على ماهر وحسين سرى ونجيب الهلالى أن لا يتجاوزوا المطالب الوطنية للقضية المصرية.
وفى دراسة معمقة للباحثة النابهة آيات محمد عبد الوهاب بعنوان "ظاهرة الحكومات العسكرية فى المنطقة العربية" والتى حصلت بها على درجة الماجستير فى العلوم السياسية من جامعة القاهرة.
(تخلص إلى أن سيطرة العسكريين وتدخلهم فى الحكم كان له أثر بالغ على الحياة السياسية فى هذه الدول، الأمر الذى شكل بدوره تهديد واضحاً لاستقرارها السياسى وتعويق فرص تنميتها وتحولها نحو تحقيق الدولة المدنية المعاصرة بكل خصائصها ومقوماتها ولاسيما فيما يتعلق بالممارسة السياسية الديمقراطية.
(4)
عندما اتضحت أبعاد حركة الجيش لفاروق وأدرك دقة موقفه، دق تليفونه عند السفير الأمريكى عدة مرات وفى كل مرة كان فاروق يقول له بوضوح إن التدخل الأجنبى فقط هو الذى يمكن أن ينجيه هو وأسرته.
أبلغ السفير البريطانى فى واشنطن حكومته بأن ما حدث فى مصر تعده الولايات المتحدة الأمريكية مسألة داخلية وهى فى الوقت نفسه تقره، وكان أمر التدخل مرفوضا أيضا من السياسة البريطانية حيث أعلنت أنها ترحب بالقضاء على الفساد وتحسين حالة الشعب.
صدرت تعليمات من الخارجية البريطانية لممثلها فى القاهرة بمقابلة على ماهر ليبلغه أن حكومته لا ترغب فى التدخل فى شئون مصر الداخلية.
وتتخذ الولايات المتحدة الموقف نفسه، فقد أخبرت الخارجية البريطانية السفير البريطانى لديها بأنها جارية فى إعطاء التعليمات لسفيرها فى القاهرة بأن يبعث رسالة لعلى ماهر تفيد بأن الأمريكيين يعتبرون الحالة فى مصر داخلية صرفة.
انتقل فاروق من قصر المنتزه إلى رأس التين ليكون أكثر أمانا وفى 26 يوليو حدث تبادل قصير لإطلاق النار بين رجال الحرس الملكى وقوات الجيش المحاصرة للقصر أسفر عن مقتل واحد من كلا الجانبين وجرح عدد بسيط، وعقب ذلك توجه أحد ضباط الحرس الملكى حاملاً علماً أبيض إلى قائد قوة الجيش التى تحاصر القصر فأصدر أمره بوقف إطلاق النار.
فزع فاروق لما يحدث وانهار واتصل على الفور بعلى ماهر الذى حضر على التو وهدئ من روعه واستغاث بالسفير الأمريكى فاتصل على الفور بعلى ماهر واستعجله على أن لا تكون هناك إراقة دماء وقد أثار ما حدث حفيظة السفير الأمريكى لأن الاتفاق كان أن يخرج فاروق سالماً حتى تكون ثورة هادئة لا مجال للدماء فيها بعد ذلك، كأن تقوم ثورات مضادة للثورة من داخل الجيش نفسه وحاول محمد نجيب تبسيط المسألة لكافرى بعد ذلك وأعطاه كلمة شرف بأنه لن يحدث أذى لشخص الملك، فرد عليه السفير أنه يثق فى كلامه.
وقبل أن يتنازل فاروق عن العرش اتصل بكريزول وأخبره بالإنذار الذى وجه إليه والمهلة التى أعطيت له، فأخبره كريزول أن التدخل الأجنبى لصالح بقائه على العرش أمر مستحيل وأن عليه التركيز على إنقاذ حياته.
وينقل كافرى لحكومته أن فاروق ركز فى حديثه أمام رئيس الوزراء أنه لم يهرب ولكن أرغم على المغادرة وقد طلب فاروق من كافرى أن تقابل يخته قطعة بحرية أمريكية لحمايته ولكن السفير الأمريكى جعله يفهم عدم إمكانية هذا الطلب وتحجج بأن الأسطول فى أثينا وأن الوقت ضيق.
كانت مهمة السفير الأمريكى تهدئة فاروق وإقناعه بمغادرة البلاد واستحالة التدخل الأجنبى لصالحه والسيطرة على حركة الجيش حتى لا تقدم على أحداث دموية تخرج بحركة الجيش عن الطبيعة الهادئة التى أرادوها لها .
وما سبق يغنى عن ذكر العلاقات التى ربطت بين بعض ضباط الحركة وبين الأمريكيين، فعلى صبرى صديق للملحق العسكرى الأمريكى والذى للمفارقة كان الصديق الأول للاتحاد السوفيتى بعد توليه رئاسة الوزراء فى مصر ولهذا تفسيره سأذكره فى حينه، وعبد الناصر كان على صله بكيرميت روزفلت وقد استقبلت السفارة الأمريكية البعض منهم فى المناسبات قبل الثورة وتقدمت العلاقة بعد أن وجدت الولايات المتحدة أنه ليس هناك أمل فى فاروق أو حكوماته.
وإذا كانت علاقات حكومة الثورة بعد ذلك بالاتحاد السوفيتى تشكل تناقضاً مع هذه الرؤية فسيفسره إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية فى أمريكا اللاتينية التى سيطرت عليها بالحكومات العسكرية رغم ارتباط القارة الشديد بالتوجهات الاشتراكية.
(5)
يستطيع الشرق الأوسط أن يرى نفسه بوضوح فى مرآة أمريكا اللاتينية بل ويستشرف مستقبله فى هذه المرآة، نظرا لأن إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية فى المنطقتين متشابهة إلى حد كبير وقد يصل فى بعض الأحيان إلى حد التطابق، ولأن إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية فيها أشد وضوحاً ولا مجال فيها للمواربة، فهى فنائها الخلفى وحسب مبدأ مونرو فيجب أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى اللاعب الوحيد فى نصف الكرة الغربى، ولعل أوضح من عبر عن معاناة أمريكا اللاتينية من ويلات الحكم العسكرى هو عملاق الأدب العالمى حائز نوبل جابرييل جارسيا ماركييز، فله رائعة أدبية بعنوان (مائة عام من العزلة) والتى يصور فيها تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية مع أنظمة الحكم العسكرية فى أمريكا اللاتينية والذى سبب عزلها عن آمالها وأحلامها الوطنية وعن اللحاق بالعالم الأول أو التحقق بشكل أدق.
ولعل رائعته الثانية تكثف هذه الحالة بشكل أدق وأوضح والمعنونة (خريف البطريرك ) التى تتحدث عن ديكتاتور عسكرى مستبد يموت فى كل فصل من فصول الرواية الثلاثة عشر لنفاجئ به حياً يرزق فى الفصل الذى يليه وهو تمثيل لتعاقب ثلاثة عشر حكومة عسكرية على تشيلى وكأن تشيلى فى قدر لا يتزحزح من التخلف والفقر والبؤس والمعاناة والضياع الذى فرضه تواطؤ الحكومات العسكرية أو الأقلية البرجوازية مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مصالح الطبقة العسكرية الضيقة وليفنى الشعب البائس فى ذات الديكتاتور الإله إلى الأبد.
الحاصل أن أمريكا اللاتينية كانت مسرحاً للاستعمار الأسبانى والبرتغالى وفى هذه الفترة كان تركيبها الطبقى إقطاعيا بامتياز فقامت مجموعة من الثورات الشعبية وحركات الاستقلال التى كانت تميل إلى اليسار ولكن حسب مبدأ مونرو تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى قرنين من الزمان من وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ وتدخلت طوال القرن العشرين لفرض ديكتاتوريات عسكرية تدعى الاشتراكية وتقمع الحركة الثورية للطبقة العاملة، ولكن هنا يجب أن ننتبه فالحكومات العسكرية التى فرضتها أمريكا كانت أمريكا تعلم أنها ستبقى شعوبها فى دائرة من الفقر والتخلف وتعلم أيضا أن النظام الاشتراكى سيسقط بسبب عدم تلبيته لحاجات الشعوب الاقتصادية كما حدث لروسيا المصدر الأساس للاشتراكيات المتعددة، وبالتالى إن ارتبطت سمعة هذه الحكومات العسكرية بأنها نظم اشتراكية وفشلت هذه الحكومات فى تحقيق الحاجات الأساسية للشعوب فستتحول هذه الشعوب من الاشتراكية إلى الرأسمالية الأمريكية.
نفس فكرة إتاحة نجاح حماس بالمراقبة الدولية للانتخابات ثم حصارها اقتصادياً ليسقط المبدأ الدينى الذى قامت عليه، ونفس فكرة الإتاحة للدولة الدينية فى إيران ثم حصارها بكل السبل لتسقط فكرة الدولة الدينية التى قامت الثورة على أساسها.
نفس فكرة التوجه الاشتراكى لمصر لحكومة الثورة فى الستينيات ثم الهزيمة العسكرية فى 1967 والضيق الاقتصادى الشديد فتسقط الفكرة الاشتراكية ولا تسقط والحكومة العسكرية، من الجدير بالذكر أن الذى كان الصديق الأول للولايات المتحدة قبل الثورة وهو السيد على صبرى كان الصديق الأول للاتحاد السوفيتى بعد الثورة، ودفع مصر هو ومجموعته (صلاح نصر وسامى شرف وخالد محيى الدين وعبد الحكيم عامر......إلخ) وبالطبع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أحد مخلفات الاحتلال البريطانى فى مصر والذى رشحته بريطانيا للاستعمال الأمريكى بعد الثورة، أقول دفعوا مصر إلى التوجهات الاشتراكية بعنف، وصعدوا الخلاف بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر إلى أقصى حد على السلطة الأمر الذى كان سببا أساسياً فى هزيمة 67 وهو المطلوب إنجازه أمريكيا، أن يبقى الحكم العسكرى بتوجه رأس مالى.
إلا أن التحولات التى حدثت فى أمريكا اللاتينية بعد ذلك انحسرت فى اتجاهين ظهور ما يسمى باليسار الجديد ومثلته فنزويلا وبوليفيا...الخ و اتجاه آخر تخلص من كابوس الحكومات العسكرية وقامت فيه أنظمة حكم على انتخابات شعبية حرة تحولت نحو الرأسمالية الوطنية وراعت البعد الاجتماعى فى هذا التحول ونجحت فى أن تلحق بأحلامها والعالم الأول فى تحول أسطورى مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلى والباراجواى.......إلخ.
إن هذا التحول من الحكم العسكرى إلى حكم قائم على انتخابات حرة حو ما يحقق مبدأ الإرادة الشعبية والذى حتماً يسبقه وعى سياسى والذى يتوجه دستور يسمح بتداول سلطة حقيقى هو ما نأمله لمصر للخروج من العزلة التى فرضتها إتاحة الحكومات العسكرية فى المنطقة.
لا أحد يشكك فى نزاهة الانتخابات الأخيرة فى مصر.
ولكن ستراهن أمريكا على فشل الأغلبية البرلمانية ذات الخلفية الدينية فى تحقيق المطالب الأساسية للشعب المصرى وهى مطالب جوهرها اقتصادى حتى يسقط هذا التيار أو يغير جلده تماما لينجو بمصالحه، وهى عرقلة المقصود منها الفشل فى التحول إلى نظام ديمقراطى ودولة مدنية.
تراهن أمريكا أيضا على الصراع الذى سينشأ بين الدولة العميقة فى مصر والمتمثلة فى سطوة المؤسسة العسكرية المتنحية عن الحكم حديثا وبين الأغلبية فى مجلس الشعب والرئيس المدنى الوليد.
من غير المتوقع أن تنسجم العلاقة بين الدولة العميقة فى مصر والدولة الوليدة.
وهذا بعينه هو الوقوع فى دائرة الفوضى المقنعة التى تؤدى إلى شل حركة الدولة.
ما لم ننتبه إلى تلك العلاقات وإلى سيناريوهات الإستراتجيات الدولية بالمنع والإتاحة وهذه الكيمياء العفنة سنظل فى دائرة العزلة عن النهوض والتقدم والرخاء.
لن نتنفس حرية سقفها السماء المفتوحة، ولكن ستتهدج أنفاسنا فى الصراع الآتى بين الحكم العسكرى الذى سبق والدولة المدنية القادمة.
ولعل الإعلان الدستورى الأخير فيما يختص بالجمعية التأسيسية للدستور ووضع خمس جهات لها حق الاعتراض على مالا يعجبها من مواد دستورية، هى إعاقة جديدة تستجيب للإدارة الأمريكية فى أن لا يكون لمصر دستور يعبر عن إرادتها الشعبية فى دولة مدنية أو حياة ديمقراطية سليمة تنهض على أساسه وتحقق مصالحها الوطنية، تضغط الإدارة الأمريكية على المجلس العسكرى بالإخوان المسلمين وتأمل الإخوان بالوصول إلى سدة الحكم فإما دولة دينية يتبعها الفوضى والاقتتال الدموى فى مصر أو حكم عسكرى بلا دستور يكون الأساس لدولة مدنية ديمقراطية حديثة.(ما أشبه الليلة بالبارحة).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.