أصدر مشروع "كلمة" للترجمة، التابع لهيئة أبوظبى للسياحة والثقافة الترجمة العربية لكتاب بعنوان "غوته ونابليون.. لقاء تاريخى" لمؤلفه غوستاف سايبت، ونقله للعربية عن الألمانية الدكتور خليل الشيخ. صدر كتاب "غوته ونابليون.. لقاء تاريخى" سنة 2008، وأعيدت طباعته خمس مرات فى غضون سنتين، وحظى بقدر كبير من الاهتمام والتحليل والمتابعة، أما مؤلّفه غوستاف سايبت Gustav Seibt فهو من مواليد مدينة ميونيخ عام 1959. شكّل اللقاء التاريخى المهم، الذى وقع فى الثانى من تشرين الثانى عام 1808 فى مدينة إيرفورت عاصمة ولاية تورينغن فى ألمانيا بين شاعر الألمان الكبير يوهان فولفجانج فون غوته (1749-1832)، وإمبراطور فرنسا نابليون بونابرت (1769-1821) نقطة انطلاق سايبت لتأليف كتابه هذا، فقد ظل هذا اللقاء يشكل نقطة جاذبة يتمحور حولها الدارسون فى ألمانياوفرنسا ويناقشونها من زوايا متعددة، ويبحثون دلالاتها، و يقرأون تأثير ذلك اللقاء فى شخصية غوته وكتاباته الشعرية والنثرية، لكن ما دونّه السياسى الفرنسى المثير للجدل تاليران أو كما يدعى بالفرنسية Charles-Maurice de Talleyrand(1754-1838) عن لقاء غوته بنابليون، شكل نقطة انطلاق سايبت لتأليف هذا الكتاب ولإعادة تأمل هذه اللحظة من منظور نقدى فاحص.. لقد ظلّ تداول فحوى هذا اللقاء التاريخى يتمّ على نحو شفاهى، وشرع كثير من أدباء الألمان يتحدّثون عنه فى رسائلهم ومدوناتهم. لم يكن غوستاف سايبت إذن، أوّل من تناول هذا اللقاء بالدرس، لكنّه أول من يعيد، فى القرن الحادى والعشرين، تناوله من منظور نقدى مستأنف لا يقتصر على لحظات اللقاء، بقدر ما يسعى إلى تبيان ما يسميه الدارسون الألمان روح العصر Zeitgeist وما شهده من تيارات فكرية وسياسية، لهذا لا يكتفى سايبت بقراءة ما دوّنه غوته والآخرون عن اللقاء، بل يشرع برسم الصورة العسكرية التى انتهت بانتصار الفرنسيين فى 14 /15 من تشرين الأول عام 1806، حين خسرت بروسيا معركة يينا-أويرشتيت فى مواجهة جيش نابليون، وغدت هرتسوغية زاكسن-فايمار- آيزناخ ومقرّها الحكومى على وشك الانهيار. وتلى ذلك اختلال الأوضاع واضطراب الأحوال فى فايمار حيث كان غوته يعمل مستشاراً فى بلاط الهيرتسوغ كارل أوغست منذ عام 1775 ويتولى إدارة الفرقة المسرحيّة فيها ويشرف على الحلقات والمناظرات العلمية التى كانت تعقد فى رحاب جامعة يينا Jena التى غدت فى تلك الحقبة واحدة من أشهر الجامعات الألمانيّة ومنطلقاً للفلسفة المثالية الألمانية، فضلاً عن أنّ الجامعة أسهمت فى عقد صداقة العمر بين غوته والشاعر الألمانى الكبير فريدريش شيللر(1759-1804). لهذا كان سايبت على صواب عندما وصف حياة غوته فى فايمار بأنها كانت حياة بلاطية –أكاديمية. وقد تجمّع فى هرتسوغية فايمار فلاسفة وأدباء آخرون أسهموا فى بناء حركة فكرية خصبة من أمثال فيلاند (1733-1813) وهيردر (1744-1803) وشيللر(1759-1805)، أما فى يينا التابعة لفايمار فقد كان يعيش كل من فيخته (1762-1814) وهيغل (1770-1830) وشيللينج (1775-1854) والأخوين شليجل (1767-1845) وهم فلاسفة وأدباء أثروْا الفكر الإنسانى عموماً وأسهموا فى تشكيل تيارات أدبية وفكرية وفلسفية عمّت أرجاء القارة الأوروبية، ولهذا فإن أهمية هذا الكتاب تكمن فى إيضاحه لهذا السياق الفكرى والأدبى الذى كان غوته الأديب والسياسى يتحرك فيه.. بدأ سايبت بتتبع تأثير الهزيمة العسكرية على حياة غوته الشخصية متتبعاً تحولاتها من الدائرة الصغرى إلى الدائرة الأوسع. التقى غوته بنابليون على مائدة الإفطار، وقد وصف سايبت تفصيلات اللقاء ابتداء بالمكان وما فيه من عناصر ترتبط بحياة غوته وذكرياته، مروراً بالشخصيات التى حضرت اللقاء أو أجزاء منه.. يثبت سايبت نص الحوار الذى دار بين الرجلين كما دوّنه أو أملاه غوته فى وقت لاحق، ويقوم بتحليل جمله على نحو تفصيلى ثم يسعى لقراءة دلالاته الإجمالية من خلال قراءة عميقة لا تكتفى بالنص بل تسعى لقراءة سياقاته الثقافية والسياسية المختلفة، التى كثر الحديث عنها فى مصادر شتى، ومن وجهات نظر متباينة. يوضح سايبت أنّ ديوان غوته الشهير West-östlicher Divan "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى" الذى ترجمه إلى العربية عبد الرحمن بدوى وأعاد عبد الغفار مكاوى ترجمته، يمثل الأجواء والمناخات لما بعد النابوليونية، ويبين أن قصيدة "هجرة" التى كتبها غوته بحروف لاتينية تمثل هذه الرغبة فى الهروب إلى آفاق معرفية بعيداً عن أزمة اللحظة المعاصرة فى أوروبا، لكن علاقة غوته بنابليون، التى حضرت فى مسرحية غوته الخالدة فاوست بقيت علاقة معقدة، ففى حين بدأ غوته يميل بالتدريج إلى إدانة السياسة النابليونية، التى أدت إلى تخريب السلام فى أوروبا والعالم، ظل غوته محباً لشخصية نابليون، يتحدث عن عبقريتها ويذهب فى ذلك مذاهب غير عقلانية. وقف هذا الكتاب عند هذه اللحظة الشديدة التركيب والتعقيد فى التاريخ الأدبى والسياسى والعسكرى على الصعيد الأوروبى ليعيد تأملها، وهى لحظة جعلت الكثيرين، فى الماضى، يقفون من غوته موقفاً سلبياً يصل حد الإدانة. كان سايبت حريصاً على مناقشة اللقاء التاريخى بعيداً عن أى تعصب أيديولوجى أو انحياز وطنى وظلّ يحلل هذا اللقاء بأفق ثقافى واسع يعى طبيعة التعقيد فى الحياة الإنسانية ويرفض الحديّة فى الحكم وأحادية النظرة، فتراه يستسلم للسرد المفعم بشعرية غوته، لكنه سرعان ما يعود إلى الناقد الصارم المسلح بالمعرفة والقدرة على إدراك طبيعة اللحظة، وما يكتنفها من تعقيد.. وكتابه هذا يقدّم مثالاً ناضجاً للكيفية التى تتم فيها إعادة تناول مسألة إشكالية، أى علاقة المثقف بالسلطة عموماً وبالسلطة الغازية تحديداً من منظور نقدى كاشف، واسع الإلمام بالمصادر الأصلية والدراسات الثانوية، يفيد من منهج تضافر المعارف interdisciplinary field فى بناء دراسة تتسم بالمنهجية والدقة.