نشرت وزارة الأوقاف خبرًا الأسبوع الماضي عن نشاط نوعي للجامعة المصرية للثقافة الإسلامية في كازاخستان (المشتهرة إعلاميًا باسم جامعة "نور-مبارك")؛ مفاده الغوص في أعماق تاريخ ذلك الوطن الفسيح أرضًا وقلوبًا، واستجلاء جانب من مقومات هويته ذات الصبغة الإسلامية، ثم صوغ تلكم الكشوف الهوياتية التاريخية على هيئة مقررات دراسية تسهم في تعزيز الهوية الوطنية للمسلم الكازاخي. وخبر كهذا لا ينبغي أن يمر مرور الكرام كسائر الأخبار، بل إنه كاشف عما يمكن اعتباره سمات تميز الخطاب الديني المصري الذي يستند إلى عمق حضاري لا يعدله عمق، وإلى فهم مستنير لا يماثله فهم، وإلى فكر سديد لا يدانيه فكر. ولحسن الربط والإفهام ينبغي أولا الحديث عن تلك الجامعة لبيان دورها، فقد كانت من ثمار التعاون بين مصر وكازاخستان منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان له موقف معلوم من الدين – أي دين. وكان لذلك تبعات عصيبة، لكن الهوية (لمن يعي) إذا كانت راسخة فإن محوها عصي على كل من حاول، مهما بلغت قوة المعاوِل. استجابت مصر لطلب كازاخستان بإنشاء مركز أو جامعة للثقافة الإسلامية الراشدة الرشيدة، ومضت التجربة تحرز نجاحًا على نجاح، تعترضها بعض التحديات ولا شك – لكنها مؤهلة للاستمرار بقوة وعطاء كما أريد لها منذ البداية. وقد تشرفتُ بزيارة تلك الجامعة بصحبة معالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري -وزير الأوقاف- منذ أشهر، وصرح فيها -بكلمات شافيات واضحات- أن تلك الجامعة بُنيت، وظلت، وستستمر هدية ونِحلة من مصر إلى كازاخستان وشعبها العظيم؛ وما أردنا بها إلا تيسيرًا للفهم المستنير، وتشبيكًا للجهود في مواجهة تحديات مشتركة، وتعضيدًا للهوية الوطنية الكازاخية، ودرءًا لمخاطر التطرف، وتعظيمًا لآفاق التعاون. وجدير بالذكر أن مصر تتحمل تكاليف أساتذة الجامعة كما تحملت تكاليف الإنشاء في البداية، ويعمل بها عدد من الأساتذة المصريين في تخصصات شرعية وعربية مختلفة؛ فضلاً عن تولي رئاستها أستاذ أكاديمي مصري. من ثمرات زيارة الوزير إلى الجامعة منذ أشهر قليلة أن وجّه بالشروع -على عجل، وبالتوافق مع الأشقاء الكازاخ- في سبر تاريخ ذلك العظيم، واستجلاء أهم شخصياته من العلماء خصوصًا في العلوم الشرعية والعربية، وإدراج ذلك وغيره في مقررات الجامعة، كي ما ينشأ الطالب الكازاخي على فهم مستنير للخطاب الديني بروحه المصرية؛ مؤداه -في هذا السياق- هو أن التدين الحق بالإسلام يجعل المسلم مواطنًا مخلصًا لوطنه نافعًا له، حريصًا عليه، حاميًا له، معتزًا به. والخطاب الديني المصري، بل الفكر الديني المصري من باب أحوى، ينفرد في هذا المقام بهذه الاستنارة المستمدة من تاريخ سيرة سيدنا وحبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وربما يأتي بيان ذلك في قابل المقالات بإذن الله. هنا يتجلى جانب أصيل من جوانب الاختلاف الجذري عن الخطاب الديني السائد عند تيارات أخرى معروفة بتطرفها سواء مارست الإرهاب أم لم تمارسه، فغلبة الخطاب الديني غير المستنير على أحد التيارات المتطرفة أنتج عجزًا عن مواكبة قيام الدولة الراعية له بهوية وطنية، لذا شهد أبناء هذا التيار تحولاً قويًا في السنوات القليلة الماضية نحو إنتاج هوية وطنية هي -وإن تكللت بالنجاح المشروط بالاستمرار ثم التقويم ثم التقييم على مر عقود لم يتسن لهم عيشها بعد- تثير ردات فعل معلومة ولا مجال للحديث عنها في هذا السياق. كما أن الخطاب المتطرف الإرهابي الذي شهدناه من جماعة الأخوان الإرهابية معلوم برغبته وترحيبه "بأن يحكم مصر غير مصري!"، وهذا لفقر في الفقه الديني، وجهل بالغايات الحقيقة من الخطاب الديني، ولعمالة بات يعلمها القاصي والداني فيهم ومنهم. إن تفرّد الخطاب الديني المصري بهذا الفهم يجعله طوق نجاة لأمم الدنيا جمعاء، خصوصًا ذات الأغلبيات غير المسلمة، لما تستشعره من قلق وتوجس وريبة من انتشار الإسلام بين مواطنيها سواء بالاعتناق أو بالهجرة خشية أن يفضي ذلك ذات يوم إلى استتباع كلي أو جزئي لتلك الأوطان، أو سعي لمحو هويات وطنية أصيلة متجذرة لا لشيء إلا لأن حملة الهوية "الجديدة" من المسلمين يضيقون ذرعًا بأي هوية أخرى. ولهذا أيضًا حديث مفصل سيأتي بيانه في قابل المقالات بإذن الله. الخطاب المصري الديني رشيد مستنير، قائم على فكر متعمق وجمال متنمق، يعي التحديات والتغيرات والمتغيرات على مر التاريخ والحاضر، لا يحاكم التاريخ ولا يحكم عليه بمعايير الحاضر، بل ينظر في التاريخ نظرة الدارس المُجِل المعتبِر؛ ويستشرف المستقبل بخطاب يليق به؛ ولله در القائل: "من تبصّر، تمصّر"!