تعددت أبعاد الإهمال الأسرى لتشمل فى البداية البعد القيمى؛ فعندما تغيب القيم، تصبح الحياة ضبابية تتضارب فيها السلوكيات مع الأقوال، ويحدث تنافرٌ متوقَّع بين أفراد البيت الصغير، وهنا نستطيع أن نحدد المعاناة، التى يواجهها الجميع، والمتمثلة فى غياب القدوة الحسنة، والتشدّق بمعانى كلمات ليس لها ترجمة على أرض الواقع؛ حينئذ يشعر الفرد بالاضطراب، ولا يكترث بالوقوع فى الخطأ؛ ومن ثم يضعف لديه الوازع، سواءً أكان خلقيًا، أم عقديًا، ومع مرور الوقت لا تجد هناك هوية تشكَّلت، ولا ذات نالت التقدير، بل، يصبح الطريق ممهدًا للانحراف. يأتى البعد النفسى فى المرتبة الثانية؛ حيث ينتج عن الإهمال العاطفي، غياب تام للأمن الوجداني؛ فتجد أن طرائق الدعم لا تنال اهتمام الفرد؛ فتبدو عليه ملامح القلق، ويُلاحظ فى سلوكياته بوادر الانسحاب والعزلة، ويرى فى تصرفاته وأفعاله التلقائية تقلبات المزاج، وشيوع العصبية، ودومًا تجده ينال من ذاته؛ فيجلدها، ويضعف من شخصيته؛ كونه يشعر بالدونية والاغتراب فى آن واحد؛ لذا تجد الإنسان فى هذا المناخ السلبي، كثير التوتر والانفعال من أبسط، أو أتفه الأسباب، كما أن التحكم فى معدلات الغضب، والخوف، وحتى الحزن، يصبح ضعيفًا، وعلى أثر ذلك يصعب عليه أن تكون له علاقات سوية، مستقرة، أو دائمة. ملامح البعد الثالث نُشاهدها فى فقدان الثقة، الناجمة عن غياب لغة الحوار البناء، وفقدان التواصل الكلى بين الجميع؛ إذ تتعالى ممارسات الصراع، ولهجة الصراخ؛ نتيجة لصعوبة فى تمييز الصواب من الخطأ، وهذا ما نصفه صراحة بالفقر الاجتماعي، الناتج عن ضعف فى مهارات من شأنها أن تعزز العلاقات، وتبنى أطر الثقة، وتخلق بيئة مواتية؛ لنشر الود، والوداد، والاحتواء؛ لذا يشكل تدنّى البعد الاجتماعى خطرًا على الأبناء؛ إذ تجدهم يميلون للعدوانية، ويقررون الانسحاب خشية الوقوع فى الخطأ، ولا يحاولون تعديل سلوكياتهم، ولا يرغبون فى بناء صداقات، ولا يستطيعون إدارة علاقاتهم مع الآخرين بصورة صحيحة. تعديل السلوك إلى الصورة المرغوب فيها، يتطلب جهدًا مضنيًا متواصلًا، يقوم على شراكة حقيقية بين، مؤسسة الأسرة، ومؤسسات بناءِ الإنسان، بمختلف تنوعاتها ورسالتها، وهنا نتحدث عن البعد التربوي؛ إذ يؤدى إهماله بقصد، أو غير قصد، إلى جنى آثار غير مرضية؛ فالأمر جد خطير؛ حيث يبحث الفرد عن البديل، الذى يستلهم منه القدوة، والنصيحة، ونموذج الممارسة المرضى له، وبهذا يضعف من الانضباط الذاتي، ويقلل من تحمل المسؤولية، ويزيد من مساحة التأثير الخارجي، سواءً أكانت للأصدقاء والزملاء، أم لمواقع التواصل الاجتماعي، وكثير من التطبيقات الذكية، التى أضحت ملاذًا للأبناء. زخم الحياة، وتواتر أحداثها، وكثرة مشاغلها، وتعدد مفرداتها، يتطلب منا، أن ننظر إلى البعد التنظيمى باهتمام؛ فإهماله يؤدى إلى غياب الشعور بالمسؤولية، ويكرس فلسفة الفوضى، ويضاعف من المشكلات المنهكة للطاقة البشرية؛ إذ تستنزف دون ثمرة، أو عائد حقيقي، وعندما لا تتوفر مهارات الإدارة الأسرية؛ فإن مساحة الروتين تأخذ حيزًا كبيرًا، والعزوف عن أداء المهام يصبح متوقعًا من بعض أفرادها، والشراكة لا تجد لها مكانًا بين المكون الأسري، وهنا نوقن بأن الأهداف بعيدة المدى، لا تلقى اهتمامًا، وخطط التحسين والتطوير لرؤى المستقبل، تغيب تمامًا عن الأذهان. ينبغى أن نولى المهارات الاجتماعية اهتمامًا ورعاية؛ حيث العمل الجاد من أجل تعزيزها لدى الأبناء؛ لتنمو ماهية الدفء، والاحتواء، والترابط الأسري، بصورة وظيفية، وأن نهتم بالصحة الجسدية؛ كى لا تقف حجرَ عثرةٍ فى مستقبل فلذات الأكباد، وأن نحاول قدر المستطاع تجنُّب جفاء الحرمان المادي؛ كى لا يشعر الفرد بحالة العوز المقوِّضة لأحلامه وآماله المتواضعة، ومن ثم يعانى من الإحباط، وما أشرنا إليه يعد إطلالة سريعة، تحتاج الكثير من الكتابات التى تصف آليات العلاج ممتدة الأثر.. ودى ومحبتى لوطنى وللجميع.