مرة أخرى، يجد المجتمع نفسه في قلب جدل صاخب، لا بسبب جريمة أو كارثة، بل بسبب مشهد يومي عابر داخل عربة مترو: رجل صعيدي كبير في السن يعترض على جلوس فتاة واضعةً رجلًا على رجل، لتشتعل مواقع التواصل بين فريقين؛ أحدهما يرفع راية «الحرية الشخصية»، والآخر يدافع عن الرجل باعتباره رمزًا لعادات وتقاليد واحترام الكِبَر. لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في «وضع رجل على رجل»، بل في سؤال أعمق بكثير: هل الحرية الشخصية مطلقة؟ أم أنها تتوقف عندما تصطدم بحقوق الآخرين وقيمهم؟ الحرية الشخصية.. مفهوم نبيل أُسيء استخدامه لا خلاف على أن الحرية الشخصية حق أصيل، وأن لكل إنسان الحق في اختيار ملبسه، جلسته، وطريقة تعبيره عن نفسه، لكن هذا الحق كغيره من الحقوق، ليس منفصلًا عن السياق المجتمعي. الحرية الشخصية لا تعني تجاهل الآخرين، ولا تمنح صاحبها حصانة أخلاقية لفرض سلوكه على من يشاركه المكان العام. المترو ليس غرفة مغلقة، بل مساحة مشتركة، يجلس فيها الشاب إلى جوار الشيخ، والمرأة بجوار الرجل، وابن المدينة بجوار ابن الريف. وفي هذه المساحات تحديدًا، تصبح الحرية مسؤولية قبل أن تكون حقًا. «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» هنا يحضر الحديث النبوي الشريف كقاعدة أخلاقية جامعة، لا تخص زمنًا بعينه ولا ثقافة بعينها، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا». هذا الحديث لا يُستخدم لتقييد الحريات، بل لتذكيرنا بأن الرحمة والتوقير جزء من هوية المجتمع، وأن احترام الكبير في السن ليس منحة ولا وصاية، بل قيمة إنسانية ودينية وأخلاقية، تسبق أي جدل عصري عن الحقوق الفردية. الهجوم على الرجل الكبير، والسخرية من اعتراضه، وتقديمه كرمز للتخلف، لا يتعارض فقط مع العرف الاجتماعي، بل يصطدم مباشرة مع هذا المعنى العميق: أن للكِبَر مكانة، وللعمر حرمة، وللتجربة احترام. الشيخ الكبير.. ضيف على زمن لم يعد يشبهه الرجل الصعيدي الكبير لم يعترض بدافع قمع أو تسلط، بل انطلاقًا من منظومة قيم تشكّلت عبر عقود طويلة؛ قيم ترى في بعض الأوضاع سلوكًا غير لائق، خاصة أمام الكِبَر. هو لم يهبط من كوكب آخر، بل جاء من زمن كانت فيه الهيبة والوقار جزءًا من النظام الاجتماعي، وكان احترام السن قيمة لا تحتاج إلى نقاش أو ترند يسمح أو يمنع.
هذا المشهد يذكرنا مباشرةً بحالة الاغتراب التي قدّمها مسلسل «عمر أفندي»، حين وجد البطل نفسه معلقًا بين زمنين؛ زمن قديم تحكمه القيم الصارمة والعلاقات الواضحة، وزمن جديد تحكمه السرعة والاختلاف وتبدل المعايير. في المسلسل، لم يكن الصراع بين الخير والشر، بقدر ما كان صراعًا بين ذاكرة قديمة تحاول البقاء، وواقع جديد لا ينتظر أحدًا.
الشيخ الكبير في المترو يشبه أبطال «عمر أفندي» في جوهر المأساة: شخص لم يرفض الحاضر، لكنه لم يُمنح الوقت الكافي ليفهمه، فوجد نفسه متهمًا بالتخلف فقط لأنه لم يتخلَّ عن ماضيه دفعة واحدة. ومطالبة هذا الرجل بأن يتخلى فجأة عن كل ما تربى عليه، باسم «التطور»، تشبه تمامًا إجبار بطل المسلسل على التأقلم القسري مع عالم لا يشبهه؛ وهو في جوهره عنف ثقافي ناعم، لا يقل قسوة عن أي قمع مباشر، لأنه لا يترك لصاحبه خيارًا سوى الاختفاء أو الاعتذار عن تاريخه.
منطق خطير"إما أن تقبل سلوكي أو أنت عدو للحرية" ، المقلق في الجدل الدائر ليس الدفاع عن الفتاة، بل منطق الإلغاء ، كل من طالب بمراعاة سن الرجل وبيئته، وُصِم بأنه ضد الحرية وضد المرأة. وكأن المجتمع لا يحتمل رأيًا وسطًا يقول:
نعم، للفتاة وحريتها الشخصية ونعم، للرجل الكبير فى حقه فى الاحترام وعدم الاستفزاز. بهذا المنطق، تتحول الحرية من مساحة للتعايش إلى ساحة اشتباك، ومن قيمة إنسانية إلى أداة تخوين. احترام الكِبَر ليس رجعية.. بل وعي احترام الكبير في السن لا يعني تبرير أي تجاوز، ولا إعطاء شيك على بياض لأي سلوك، لكنه يعني إدراك أن العمر خبرة، وأن المجتمعات لا تُقاس فقط بسرعة التغير، بل بقدرتها على احتواء الاختلاف بين الأجيال. السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه: هل أصبح احترام مشاعر رجل في عمر آبائنا وأجدادنا اعتداءً على الحرية؟ وهل التعايش بات مستحيلًا دون فرض سلوك واحد باعتباره «الأكثر تحررًا»؟ الخلاصة: الحرية لا تزدهر دون رحمة القضية ليست رجلًا على رجل، ولا شيخًا صعيديًا، ولا فتاة في المترو، القضية هي فهم مبتور للحرية، يفصلها عن الرحمة، ويعزلها عن الاحترام، ويحولها إلى شعار أجوف. فالحرية التي لا تراعي الكبير، حرية ناقصة، والمجتمع الذي ينسى حديث نبيه عن توقير الكِبَر، مجتمع يفقد بوصلته الأخلاقية، ويصنع صراعات كان يمكن حلها بابتسامة، أو كلمة هادئة، أو قليل من الاحترام.