منذ زمن الستينيات والكتابات لا تتوقف عن صناعة الرئيس ورئيس الوزراء والنخبة المؤهلة لصناعة القرار فى الولاياتالمتحدةالأمريكية و بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا ومستشار ألمانيا وفى باقى الدول المتقدمة، كتب كثيرة ودراسات وتحليلات سياسية تناولت كيفية صناعة الرئيس والوجوه المرشحة لتولى المناصب العليا فى الدولة فى السنوات المقبلة. أذكر أثناء الدراسة فى كلية الإعلام جامعة القاهرة فى الثمانينيات، كان أستاذ مادة الترجمة الصحفية لقسم الصحافة هو الأستاذ عاطف الغمرى الكاتب الصحفى الكبير ومراسل الأهرام فى واشنطن لسنوات طويلة -رحمه الله- وكان يكلف كل مجموعة مكونة من 5 طلاب بشراء مجلة أو صحيفة أجنبية باللغة الإنجليزية لتحليل ومناقشة وترجمة بعض الموضوعات التى تتناولها، المجموعة التى كنت عضوا فيها اشترينا مجلة التايمز البريطانية، كانت صورة غلاف المجموعة عبارة عن صور شخصية لأكثر من 25 أو 30 شخصية وفوقها عنوان ضخم باللغة الإنجليزية يقول "هؤلاء يحكمون بريطانا فى العشرين عاما القادمة". داخل المجلة ملف كامل تفسر فيه أسرة تحرير التايمز أسباب اختيارها هؤلاء الشباب من خلال استطلاعات رأى من الأحزاب ومراكز الدراسات والجامعات وإعداد القادة وكبار السياسيين والخبراء والمتخصصين فى المجتمع البريطاني، وجاءت النتيجة اختيار هؤلاء وترشيحهم لتولى المناصب الكبرى فى الدولة خلال العقدين التاليين. المفارقة أنه كان من بين هؤلاء تونى بلير الذى أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا عام 97 ولمدة 10 سنوات وكان عمره وقتها 44 عاما فقط. الحال ذاته مع خوسيه ثباتيرو الشاب الذى تدرج فى مناصب الحزب الاشتراكى الإسبانى حتى أصبح رئيسا لوزراء إسبانيا عام 2004 وعمره أيضا 44 عاما وأيضا رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلونى التى تولت عدة مسئوليات حزبية ومناصب رسمية وكانت ناشطة طلابية وصحفية وتدرجت فى العمل السياسى والحزبى والاجتماعى ثم تولت رئاسة الوزراء فى عام 2022 وهى من مواليد 1977. فى المقابل أيضا الرأى العام فى هذه الدول يتمتع بنسب وعى كبيرة تمكنه من القدرة على الاختيار سواء للنائب أو الحزب أو الرئيس فى الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية من خلال متابعة المرشح والنائب المحتمل أو الرئيس والحزب وبرنامجه السياسى والاجتماعى والاقتصادى والاجتماعى وإدراك الناس بحتمية المشاركة السياسية وضرورة الاهتمام بأى انتخابات برلمانية ورئاسية ترسم مستقبل المجتمع وتحدد مساره وحياة شعبه. فالانتخابات الرئاسية الأمريكية أصبحت أكثر من مجرد عملية انتخابية، بل لحظة حاسمة تغير مجريات الأحداث فى العالم، فخلف الكواليس، توضع استراتيجيات معقدة، للتأثير على ملايين الناخبين، ويخطط كل فريق لحملة رئاسية لكل خطاب وإعلان ومناظرة بدقة، فالأمر لا يتعلق بقوة الرسالة فحسب، إنما فى كيفية إيصالها. والاستعداد للانتخابات تستغرق سنوات عبر عدة مراحل. وهناك كتاب مهم صدر عام 2020 بعنوان "صناعة صورة الرئيس الأمريكى بين التسويق السياسى والتناول الإعلامى والتجسيد الفنى (كيف يصنع أكبر رئيس دولة فى العالم؟) للكاتب الجزائرى الدكتور مراد بن عيسى بو شحيط. خلاصة القول هنا أن نية شخص ما على الترشح فى تلك الدول لا تأتى من فراغ أو هى نوبة شجاعة وحماس لإعلان قرار الترشيح وخوض الانتخابات، فالمسألة مختلفة تماما -إلا من بعض الاستثناءات القليلة للغاية- لأنها تتم عبر تراكم معرفى وخبرة سياسية وممارسة حزبية أو اجتماعية لسنوات داخل أطر تنظيمية شرعية يتم من خلالها اختيار الكوادر المؤهلة والمدربة للترشيح أو لتولى مناصب معينة وصهره واعداده ليبقى قادرا على تولى المسئوليات الأكبر. فى الانتخابات البرلمانية الحالية فى مصر، ركزت المناشدات الرسمية والإعلامية على ضرورة المشاركة السياسية للناخبين المصريين (69 مليون ناخب من لهم حق التصويت حاليا فى مصر) والنزول إلى لجان الانتخابات للإدلاء بأصواتهم مع التنبيه والرجاء بأهمية الصوت الانتخابى لاختيار نائب قادر على التعبير عن قضايا المواطن وطموحه وأحلامه تحت قبة البرلمان والتحذير من بعض الممارسات الخاطئة لإغراء الناخبين وتوجيه أصواتهم بطريقة تتنافى وحرية التعبير والرأي. للإنصاف والأمانة هناك بعض الدوائر تمكن ناخبوها من مقاومة الإغراءات واختيار النائب الحقيقى الجدير بعضوية البرلمان رغم عدم القدرة المالية على الإنفاق على العملية الانتخابية. دوائر داخل القاهرة وفى بعض المحافظات فى الشرقية والدقهلية. وهذا يعنى أن هناك معدلات وعى لدى شرائح اجتماعية داخل محافظات ودوائر تتمتع بنسب تعليم كبيرة وبمرشحين قادرون على المنافسة والرهان على وعى الناخبين. وهو ما يمنحنا الأمل فى البناء على ما حصل فى تلك الدوائر واستمراره وانتشاره فى باقى الدوائر فى مصر، وهذا يتأتى من خلال استراتيجية واضحة بعيدا عن المناسبات الوطنية تشارك فيها الأحزاب والوزارات المعنية ومنظمات المجتمع المدنى ومراكز اعداد القادة. الانتخابات البرلمانية الحالية لا ينقصها أيضا سوى التخلص من الصورة البائسة لنائب الخدمات والمال السياسى الذى يتجاوز حدود القانون فى الدعاية الانتخابية واغراء الناخبين، وتأهيل وإعداد وجوه جديدة مؤهلة ومدربة حزبيا وسياسيا واجتماعيا فى مخاطبة الناس وإقناعهم. وبمناسبة مراكز إعداد القادة فى مصر والتى تهدف إلى تنمية مهارات القيادة والإدارة، وتعزيز القدرة على التحفيز والإلهام، وإعداد قادة المستقبل فى مختلف المجالات المهنية والوطنية. وتطوير المهارات القيادية لدى الأفراد وتمكينهم من تولى المناصب القيادية والإدارية بنجاح، عرفت أن فى مصر 20 مركزاً لإعداد القادة من الشباب فى مصر أبرزها معهد إعداد القادة التابع لوزارة الشباب، ومعهد إعداد القادة التابع للجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، ومعهد إعداد القادة بحلوان ومعهد الدراسات المصرفية بالبنك المركزى ومركز إعداد القادة لإدارة الأعمال. هذه المراكز أعدت ودربت وأهلت آلاف الشباب لكن لا نعرف أين ذهب هؤلاء الذين حصلوا على برامج تدريبية عالية المستوى وأنفقت عليهم الدولة ملايين الجنيهات. هناك مكاسب عديدة فى إدارة الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى مصر علينا الحفاظ عليها وصيانتها من أية شوائب وما نريده خلال المرحلة المقبلة هو عملية صناعة النائب والقيادى المحتمل وأيضا صناعة الوعي.