جاء برنامج «دولة التلاوة» بمثابة إعلان هاديء لكنه قوي بفعل تأثيره أن مصر قررت استعادة صوتها القديم بروح معاصرة، وبمنهج لا يكتفي بالحنين لكن بالصناعة، فالحديث عن المدرسة المصرية في التلاوة ظل لسنوات طويلة محصورا على أسماء عدد من العمالقة من القراء المصريين الذين غيروا شكل التلاوة في العالم الإسلامي، بينما غاب السؤال الأهم: لماذا لم نظهر أجيالا جديدة تُكمل المسيرة؟ ولماذا تحولت مدرسة التلاوة المصرية إلى مجرد تسجيلات؟ ، إلا أن ظهور برنامج دولة التلاوة كان بمثابة محاولة لاستعادة ما هو أبعد من فن.. استعادة حالة مصرية محببة إلى قلوب المصريين. والحقيقة أن جاذبية «دولة التلاوة» تنطلق بالأساس من الفكرة، فالبرنامج يتعامل مع التلاوة كفن كامل الأركان، له قواعده الصوتية والمقامية، ومساحاته الروحية، وحدود أدائه، ومخاطره إذا تحول إلى استعراض. هذا الوعي يجعل التجربة مختلفة عن محاولات أخرى ظهرت في دول مختلفة، إذ تتعامل تلك التجارب مع التلاوة كمسابقة، بينما يتعامل «دولة التلاوة» معها كمنهج، وهنا يكمن جوهر القوة الانتقال من أداء لحظي إلى بناء مدرسة كاملة قادرة على إنتاج قارئ قادر على حمل مستقبل دولة التلاوة لسنوات طويلة وليس فقط فترة المشاركة في البرنامج. ومن خلال متابعتي للحلقات الأولى لاحظت أن البرنامج حريص على استعادة «الهوية الصوتية» المصرية التي كادت أن تذوب وسط موجة من الأداء المتشابه والغريبة علينا كمصريين، فمصر كانت وما تزال تمتلك بصمتها الفريدة والمميزة في التلاوة والتي تجمع بين القوة الممزوجة بالهدوء، الانتقال المحسوب بين المقامات، والعلاقة العجيبة بين الصوت والمعنى. كل قارئ مصري عظيم كان يمتلك هذا التوازن ولديه ما يميزه عن غير، والمنهج الجديد يحاول أن يشرحه، لا أن يتركه للموهبة وحدها. هذه النقطة تحديدا تعيد تعريف التلاوة لدى الجمهور بأنها ليست أداء فطريا فحسب لكنها فنا له قواعد وأصول وتاريخ. ومن مسببات الفرحة اتساع أثر البرنامج ليشمل المجتمع كله، فجأة عاد الناس يتحدثون عن التلاوة كما يتحدثون عن الموسيقى الجيدة جودة أداء، إحساس، مدرسة، وتطور، هذا التحول الاجتماعي لا يقل قيمة عن التحول الفني، لأنه يعيد للتلاوة مكانتها كجسر بين الروح والثقافة، بين الدين والفن، ومن الملاحظ أن ما يجعل البرنامج أكثر قابلية للنجاح هو قدرته على فتح باب دولي واسع أمام المدرسة المصرية، فما زالت التسجيلات القديمة لعبد الباسط والمنشاوي ومصطفى إسماعيل تدرس في دول عديدة، كونه مشروعا ثقافيا ودينيا يعود بمصر إلى مكانتها الطبيعية كمصدر للفن الروحي الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي. والجميل أيضا أن البرنامج لا يسعى إلى استنساخ الماضي، بل يحاول أن يقدم نسخته الخاصة لعصر جديد، فالصوت هنا ليس نسخة من قارئ قديم، بل محاولة لاستعادة الروح مع الحفاظ على شخصية كل موهبة، وهذه هي المعادلة الأصعب، وهي أيضا ما يمنح التجربة صدقها، ومع استمرار البرنامج، سيظل التحدي الحقيقي هو الحفاظ على هذا العمق، وعدم الانجراف إلى تقديم «تلاوة استعراضية» أو الاكتفاء بنجاح جماهيري سريع. لكن المؤشرات الأولى تقول إن هناك رغبة حقيقية في وضع أساس قوي، وأن هذا الأساس هو ما يمكن البناء عليه لسنوات طويلة. وفي الختام.. أتوجه بتحية شكر وتقدير للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ووزارة الأوقاف على الجرأة في إطلاق مشروع بهذا الحجم، مشروع يعيد تنظيم المشهد بدل الاكتفاء بتمجيد الماضي.وبالتأكيد هذا النوع من المبادرات لا يقوم على قرار فقط، لكنه يعتمد على رؤية وإرادة واستثمار في قيمة ثقافية ظلت معلقة لسنوات. كما أقدر الجهد الضخم الذي بذله فريق العمل خلف الكاميرا وفي مدارس التدريب، إضافة إلى الدور الرفيع لأعضاء لجنة التحكيم والقامات الدينية والعلمية المشاركة والذين أضافوا للبرنامج عمقه الفني وأمانته العلمية، وجعلوا من كل حلقة مساحة حقيقية للتعلم.