افتتاح مبهر، تلاقت فيه عبقرية الجغرافيا، مع عظمة التاريخ، لينسجا معهما حدث ثقافي جلل، وهو افتتاح المتحف المصري الكبير، والذي يحمل في أروقته كنوزا نادرة، تعكس حضارة إنسانية راقية، باتت تلعب دورا محوريا في صناعة حاضر مستقر أملا في مستقبل مشرق، وهو ما يفسر حالة الاهتمام العالمي بالحدث الكبير، ليتجاوز أبعاده الثقافية والحضارية، ولكن ربما لاستلهام رسالة جديدة من قلب القاهرة، ومن مركز الحضارات، وهو ما يعكس حضورا طاغيا للدولة المصرية، على المستوى الدولي، ليس فقط على مستوى السياسة أو الدبلوماسية التقليدية وإنما في أطر أخرى، تبدو أكثر عمقا، تتداخل فيها الأبعاد بين الثقافة والدبلوماسية والفن والسياسة والحضارة، وهو ما يمثل عبقرية الحدث. عبقرية الحدث، لا تقتصر في واقع الأمر على الاحتفال، وإنما في كيفية استثماره، على مختلف الأصعدة، بحيث يتجاوز نطاقه التقليدي، فالاحتفالية ساهمت في تعزيز القطاع المرتبط بها مباشرة، وهو قطاع السياحة، وهو ما يمثل أهمية اقتصادية قصوى، خاصة إذا ما نظرنا إلى الهدف الذي تضعه الدولة على عاتقها بالوصول إلى أكثر من 30 مليون سائح في عام 2030، ولكن الأمور تجاوزت هذا النطاق، حيث سلطت الضوء مجددا على مكانة مصر الدولية، عبر الحضور الطاغي، من قبل قادة وملوك وزعماء العالم، لتتحول إلى ما يمكننا تسميته "منتدى ناعم"، قدمت منه مصر رسائل عدة إلى العالم، حول السلام والأمن والاستقرار مستلهمة إرث الأجداد، وهو ما يبدو بمجرد النظرة المجردة إلى مقتنيات المتحف، أو التمعن في فقراته. إلا أن ثمة بعد رئيسيا يمكننا الارتكاز عليه عند الحديث عن الاحتفالية، يتجلى في تعزيز الرؤية المصرية القائمة على التوافقات، والتي تجاوزت السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، نحو تلاقي الحضارات، وهو ما جسدته كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أو حتى الفقرات المقدمة خلال الحفل، منها العروض المتزامنة داخل المتحف في قلب القاهرة، مع أخرى في مدن أخرى تجمع بين العراقة والحداثة، على غرار باريس وطوكيو وريودي جانيرو ونيويورك، وهو ما يمثل في ذاته رسالة، مفادها ضرورة التحول من حالة الصراع والتنافس الشرس التي رسمت طريق العالم خلال العقود الماضية، ودفعت قطاع كبير منه نحو هاوية الفقر والحروب، نحو الحوار والتلاقي، في صورة فنية راقية ساهمت في تقديم الرسالة بصورة ناجعة. صورة أخرى للتلاقي قدّمها الحفل، حين امتزجت الأناشيد الإسلامية بالألحان القبطية، في حضرة لغة مصر القديمة، ليخرج المشهد وكأنه بيان حضاري يقول إن هذا الوطن لم يعرف يومًا صدام الهويات، بل صاغ منها سيمفونية واحدة، ووسط هذا الامتزاج، كان الحضور النوبي لافتًا، ليس بوصفه تفصيله فولكلورية، بل باعتباره برهانا حيا على أن التنوع في مصر ليس عنوانًا للانقسام، بل منبعا لقوة ناعمة وثقة تاريخية بقيمة الاختلاف حين يُدار بالحكمة لا بالصخب. التنوع يجد جذوره في التاريخ المصري، وممتد على مر العصور، وتبقى عبقرية المشهد في كونه مصدرا للثراء لا الصراع، وهو المشهد الذي يبقى الحاضر العالمي والدولي في حاجة ملحة إليه من أجل الوصول إلى الاستقرار، ومن ثم تحقيق الاستدامة، وصولا إلى مستقبل أفضل، فالاحتفالية وضعت بين يدي العالم، عبر أنغامها، ورحلاتها بين التاريخ والجغرافيا، الجرح العميق الذي يعانيه الكوكب، وهو الاختلاف، وأعطت رؤية عميقة في كيفية إدارة الاختلاف، وكيفية تحويله من أداة للصراع إلى وسيلة حوار وتقارب بين الشعوب، وهو الأمر الذي أعطى الاحتفالية أبعادا أكبر من المناسبة وهي افتتاح المتحف، بل وتجاوزت أبعادها الثقافية والاقتصادية، نحو أفاق أرحب عبر تنظير ناعم حول استثمار التنوع والبناء على الإرث وحوار الحضارات. جانب آخر من عبقرية المتحف، تجسدت في استعراض التاريخ تزامنا مع بناء الحاضر، فالتاريخ معروف للجميع، وكان دائما مصدر للافتخار حتى في فترات التراجع، إلا أن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة، فعندما أعلنت مصر افتتاح متحفها واستعراض إرثها الحضاري أمام ملوك وزعماء العالم، كان ذلك في وقت تشهد فيه طفرة بناء حضارية جديدة، ليس فقط في بناء المدن والمشروعات، ولكن الأهم من ذلك في بناء الإنسان، وضمان حياة كريمة له، مع تصحيح أفكاره ومساراته، من أجل مستقبل أفضل، بينما يمثل افتتاح المتحف ليس مجرد استرجاعا للماضي، وإنما في واقع الأمر تعزيزا لهويته، فتتحول حالة الفخر لديه من مجرد "شو" إعلامي، وإنما في الواقع دفعة للعمل من أجل مواصلة البناء الحضاري، فيكون امتدادا لأجداده وهنا يمكننا القول بأن القيمة الأهم لهذا المشهد، أنه جاء ليذكر الجميع بأن التطور ليس صورة تلتقط، ولا سباقًا في مؤشر هنا أو استطلاع هناك، بل مشروع وطني طويل النفس، تُبنى فيه الدول من جذورها صعودا، فمصر لا تسعى لتكون انعكاسًا لأحد أو نسخة من أحد، بل تستعيد ذاتها كما عرفها التاريخ كقوة تصنع معناها بذاتها وتكتب مسارها بوعي شعوبها وتراكم حضارتها، لهذا لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا ثقافيًا فحسب، بل لحظة إعلان عن نموذج مختلف للتقدم يقوم على إدراك حقيقة مفادها أن القوة لا تُصنع من الصفر، بل تُستعاد من الجذور، وتُعاد صياغتها لتناسب زمنًا جديدًا، دون أن تفقد روحها.