انتفض العالم بعد المجازر الدموية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين العزل في قطاع غزة، وأدركنا أن هناك ضمائر عالمية ما زالت تنبض بالحياة، وأن الدنيا ما زالت بخير، حينما بادرت بعض الدول إلى رفع قضايا أمام محكمة العدل الدولية للمطالبة بانتزاع الحقوق الفلسطينية من بين أنياب من يعتبرون أنفسهم "أسياد العالم". لكن، وكما يقولون، لا يضيع حق وراءه مطالب، فوسط هذا المشهد الملطخ برائحة الموت، انتصرت محكمة العدل الدولية للحق، وأدانت دولة الفصل العنصري الوحيدة في العالم، تلك التي تضع نفسها فوق كل القوانين. لقد أيد العالم أخيرًا حقوق الشعب الفلسطيني، ذلك الشعب الذي نادرًا ما كان يجد دعمًا دوليًا في قضيته الممتدة لعشرات السنين، وجاءت الإدانة هذه المرة شاملة، من رأس الهرم في كيان الاحتلال إلى أصغر جندي في صفوف جيشه. غير أن المشهد المأساوي لا يقتصر على فلسطين، فالعالم اليوم أمام مجازر مروعة في مدينة الفاشر السودانية، تستدعي تحركًا دوليًا عاجلًا أمام المحكمة الجنائية الدولية، لمحاسبة المتسببين في هذه الجرائم التي ترقى إلى الإبادة الجماعية، كما حدث في مجازر الهوتو ضد التوتسي برواندا في تسعينيات القرن الماضى، والتي خلفت وراءها أكثر من مليون قتيل. لكن الفارق المؤلم أن العالم اليوم يشاهد المأساة السودانية بثًا مباشرًا، والجناة أنفسهم يوثقون جرائمهم ويفاخرون بها علنًا على مواقع التواصل الاجتماعي. شاهدت بكل أسى حسابًا لشخص يدعى «أبو لولو»، وهو مجرم حرب تابع لقوات الدعم السريع، يوثق جرائمه ضد المدنيين السودانيين في بث مباشر على منصة "تيك توك"، حيث يظهر وهو يقتل الأبرياء بدم بارد، في انتهاك صارخ لكل الأعراف والقوانين الدولية. تؤكد هذه المقاطع المصورة صحة التقارير الحقوقية التي توثق جرائم قتل واغتصاب وتطهير عرقي بحق المدنيين في الفاشر، دون أي مساءلة أو خوف من العقاب. إن هذا المجرم ومن يقف خلفه من قيادات الدعم السريع، وكل من يدعمهم أو يوفر لهم الحماية، يجب أن يقدموا إلى المحكمة الجنائية الدولية لينالوا جزاء ما اقترفت أيديهم من دماء الأبرياء، فما حدث في الفاشر ليس مجرد اشتباك مسلح، بل مذبحة جماعية موثقة بالصوت والصورة، تظهر الشوارع غارقة في الدماء، والجثث تحرق وسط تهليل القتلة واحتفالهم بما يصفونه "نصرًا". لقد تحولت الفاشر اليوم إلى مرآة دامية تعكس وحشية الحرب السودانية، وتفضح أمام العالم جرائم ممنهجة ما زالت ترتكب بلا رادع، في انتظار عدالة دولية قد لا تأتي قريبًا، لكنها حتمًا آتية.