العلماء هم القلب النابض والعقل المدبر والضمير اليقظ في كل حضارة عظيمة فهم حملة مشاعل النور، ورواد البناء، وهداة العقول، وحماة القيم التي تحفظ الإنسان والمجتمع ولقد أدركت الأمم الراشدة أن ازدهارها يكمن في قدرتها على احترام عقول أبنائها وتقدير علمائها الذين يضيئون دروب المستقبل فالعالم هو الثروة الحقيقية للأمة، والطاقة التي لا تنضب، والعقل الذي يترجم رؤيتها في مواجهة التحديات، ومن دون العلماء، تفقد الأمم بوصلتها، وتختل معاييرها بين التقدم المادي والوعي القيمي والإنسانية الأخلاقية. وبكل تأكيد لا تنهض أمة ولا يزدهر وطن إلا حين يجعل من العلم بوصلته، ومن العلماء ضميره اليقظ وحراسه المخلصين، فالعلم هو الطاقة التي تبني الحضارة بالوعي، والعلماء هم البناة الحقيقيون للنهضة الفكرية والاقتصادية والروحية ومن يكرم العلماء إنما يكرم الوعي، ويحمي العقل الجمعي من التكلس، ويؤكد إيمانه بأن النهضة تصنعها العقول التي تفكر، والضمائر التي تخلص، والقيم التي تتجذر في وعي الأمة. وتتجلى أهمية النظر إلى العلماء في إطارين متكاملين لا ينفصل أحدهما عن الآخر أولًا التكريم المستحق، الذي يعبر عن تقدير الأمة لعطائهم وإخلاصهم، واعترافها بدورهم في صناعة التقدم، وثانيًا الرسالة الدائمة، التي تضع على عاتقهم مسؤولية مواصلة البناء الفكري والإنساني بما ينهض بالأوطان ويرشد الوعي العام، فتكريم العلماء وبناء الكفاءات أمرين متوازيين وركيزة رئيسة في فلسفة الدول وسياسة واعية تترجم احترام العقول وتقدير الكفاءات، وتربط بين العلم والكرامة، والمعرفة والهوية، والإبداع والمواطنة، فحين تكرم الأمة علماءها، وتنشئ بيئة خصبة لبناء كفاءات جديدة، فإنها تكرم قيمتها الحضارية وحقها في المستقبل. فالأمم التي تدرك مكانة علمائها تحفظ لنفسها الذاكرة والكرامة والقدرة على التجدد، أما التي تهملهم أو تهمشهم، فإنها تفقد بوصلة التقدم وتسلم زمامها إلى العشوائية والركود، فالعلماء هم رهان الأمم الحقيقي في مواجهة تحولات العالم المتسارعة، وهم صوت الضمير الإنساني وسط ضجيج المصالح والماديات، ومن ثم، فإن تكريمهم هو استثمار في الوعي والهوية والمستقبل، وضمان لاستمرار النور في دروب الوطن. ويعد تكريم العلماء وتبجيلهم موقفًا حضاريًا وتربويًا يعكس وعي الدولة والمجتمع بمعنى القدوة، وإدراكهما لرسالة العلم في بناء الإنسان وصناعة المستقبل، فحين يرى الناشئة أن العالم يكرم في وطنه، وأن الكفاءة تقدر وأن العطاء يحتفى به، تتكون في نفوسهم قناعة راسخة بأن العلم هو طريق العزة، والتفوق رسالة للبناء والعطاء، والإبداع يجزى بالتقدير والرعاية، فالتكريم يمثل رسالة تربوية ترسخ في الأجيال الإيمان بقيمة الجهد، والاجتهاد والمكانة، والإخلاص والتقدير. فحين نكرم العالم نكرم معه العقل والضمير، ونكرس في المجتمع ثقافة الوفاء للعلم والمعرفة، وهي الثقافة التي تبني الأمم وتترسخ جذور الانتماء في وعي الأفراد وبقدر ما تحسن الأمة رعاية علمائها، بقدر ما تؤمن لنفسها مكانًا راسخًا في حركة التاريخ، أما تجاهل العلماء أو تهميش الكفاءات يفقد المجتمع أعمدته الصلبة، ويضعف ثقة الأجيال في جدوى العمل الجاد، ويزرع الإحباط في نفوس المبدعين، وتتراجع روح المبادرة، وتبدأ العقول في البحث عن فضاءات أخرى تليق بها، ومن هنا فإن الحفاظ على العلماء ورعايتهم واجب وطني وإنساني يضمن للأمة استمرار وعيها وقدرتها على التجدد، ويحمي طاقاتها الفكرية ويحول دون تسرب العقول وهجرتهم أو انطفاء الطاقات المبدعة. ويكتسب تكريم العلماء معناه الحقيقي حين يصبح نظام ثقافي ومؤسسي مستدام، تترسخ من خلاله قيم التقدير والاحترام للعقل المبدع والعلم النافع، فالتكريم يعد اعتراف مجتمعي بقيمة الجهد والابتكار، وإقرار بأن بناء الحضارة يقوم على عقول تؤمن بالعلم وتعمل بإخلاص في سبيل الوطن، ويكتمل هذا الاعتراف حين يترجم إلى سياسات تعليمية وبحثية واعية، ومنظومة وطنية من القيم تضع المعرفة والإبداع في مقدمة أولوياتها، بحيث يكون الاحتفاء بالعلماء تعبيرًا عن إرادة وطنية حقيقية لتوسيع آفاق البحث العلمي، وتوفير بيئة محفزة للإنتاج المعرفي، وتمكين العلماء من مواصلة العطاء بحرية وإبداع، فالعالم يطلب احترام المعرفة التي يحملها، وتقدير الظروف التي تتيح له استثمارها في خدمة وطنه. ويكمن التحدي الحقيقي في ترجمة التكريم إلى ثقافة ديناميكية وفعل واستدامةٍ واعية، ترسخ في وجدان الأمة أن احترام العقل هو أسمى أشكال الوطنية، وأن تكريم العلماء هو مشروع النهضة ذاته فحين تسري هذه الثقافة في مفاصل المجتمع، يتم الإدراك أن العلماء شركاء في القرار والتخطيط وصناعة المستقبل وشهود على نجاح مساره، وهكذا تتجلى قوة الأمة في عقولها التي تفكر، وقيادتها التي تكرم، ومؤسساتها التي تنصت للعلماء وتحتضن الكفاءات، حيث إن احترام العقل هو أساس الرقي، وتقدير العلماء هو الضمانة الحقيقية لاستدامة النهضة، ومصدر الإلهام لكل مشروع حضاري طموح. ويمثل بناء الكفاءات الوطنية الوجه الآخر لتكريم العلماء، فالتكريم يكتمل حين يقترن برؤية استراتيجية تهتم بتأهيل العقول وتنمية القدرات واستثمار الطاقات العلمية في مسارات التنمية المستدامة، فالأمم التي تدرك أن العلم هو محرك النهضة تجعل من بناء الكفاءات أولوية وطنية، وتحسن إدارة المعرفة وتوجيهها نحو خدمة الإنسان والمجتمع، فالكفاءات الوطنية هم رأسمال فكري ومعنوي يعبروا عن وعي الأمة بذاتها، وعن قدرتها على توظيف المعرفة والفكر والرؤي وترجمتهم إلى إنجازات بأرض الواقع ومن ثم فبناء الكفاءات يتحقق بسياسات علمية وتربوية متكاملة تبدأ من المدرسة والجامعة، وتمر عبر مراكز البحث والابتكار، وتنتهي في مؤسسات الإنتاج والتنمية، حيث يجد العالم والمبدع موقعه الطبيعي في منظومة وطنية تُقدّر العلم وتربط بين الجهد والجدارة. وتتضح أهمية تهيئة بيئة علمية محفزة تحترم حرية البحث، وتشجع التفكير النقدي والإبداعي، وتكسر الحواجز البيروقراطية التي تعيق انطلاق الكفاءات، فالعقل المبدع يحتاج إلى مناخ من الثقة والدعم والتقدير، وإلى مؤسسات مرنة تتبنى التجديد وتمكن الباحثين من الإسهام في صناعة القرار وصياغة السياسات العامة، كما أن بناء الكفاءات يتطلب رؤية تربوية شمولية تعلي من شأن العلم كقيمة ثقافية، وتغرس في الأجيال روح الاجتهاد والانتماء، وتربط بين التفوق العلمي والمسؤولية الأخلاقية والوطنية، فبناء الإنسان المتعلم المبدع هو حجر الزاوية في التنمية المستدامة، فلا تنمية بلا معرفة، ولا معرفة بلا بيئة حاضنة للكفاءات. وعندما يتحقق هذا التكامل بين تكريم العلماء وبناء الكفاءات، تتأسس منظومة وطنية قوية قادرة على استثمار العقول المبدعة في تحقيق التنمية الشاملة، وحماية الهوية الوطنية، ومواكبة متغيرات العصر دون فقدان البوصلة القيمية، فالدول التي تحسن الاستثمار في عقول أبنائها تضمن لنفسها مكانة في المستقبل، لأنها تراهن على الإنسان والعلم فهم الطاقة المبدعة التي لا تنفد والضوء الذي ينير ويمهد للنهضة المستدامة. ويؤتي تكريم العلماء ثماره حين يتبع بحماية حقيقية للكفاءات من التهميش والإهمال والهجرة، لأن التكريم بلا رعاية يصبح شكلاً بلا مضمون، فلابد من توفير بيئة آمنة وحاضنة للعقول الوطنية، تقدم الدعم المادي والمعنوي وتهيئ فرص البحث والتطوير، وتكفل حرية الفكر والتعبير التي تحفز الإبداع وتطلق الطاقات الكامنة، حيث إن رعاية الكفاءات الوطنية حماية لسيادة المعرفة، فالعقول النابغة تعد ثروة استراتيجية لأنها المورد الذي لا ينضب، والضمانة لاستمرار النهضة والاستقلال الفكري ونؤكد أنه الأوان لأن تصبح ثقافة تكريم العلماء جزءًا راسخًا في هوية المجتمع المصري والعربي، ونهجًا يعكس وعي الأمة بذاتها وبمستقبلها. فالعلماء هم الذين يصنعون الفارق بين أمة تسير نحو النور وأخرى تكتفي بالظلال، بين وطن يراهن على العقل وآخر يكتفي بالذاكرة، كما أنه يحمل رسالة متجددة بأن مصر والأمة العربية تمتلك من العقول والطاقات ما يجعلها قادرة على صناعة مستقبل يليق بتاريخها ومكانتها، ويعيد للعلم مكانته في وجدانها وهويتها، وتعلن للعالم أنها أمة تعرف قدر العقل، وتحفظ لمن أناروا دروبها مكانتهم في الذاكرة والوجدان، وتؤمن بأن طريق النهوض يبدأ دائمًا من تكريم الفكر، وتقدير المبدعين، وإعلاء قيمة العلم بوصفه ركيزة الوجود وعماد السيادة. أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر