كان يوم الجمعة زمان حكاية دافئة تُروى على مائدة الطعام لا على شاشات الهاتف، يومٌ من أيام الله، لكنه كان لنا نحن البشر، نتطهّر فيه من تعب الأسبوع، ونغتسل في نهر العائلة. كانت الجمعة طقسًا مقدسًا، يبدأ برائحة الأكل الصاعد من شرفات البيوت، ويمرّ بضحكات الأهل على درجات السلالم، ويُتوّج بمائدة عامرة بالحب قبل الطعام. كان الجميع يعود، ولو مؤقتًا، إلى بيت الذكريات، الابن المسافر يحضر بجسده، والابنة المتزوجة تأتي بصغارها وقلبها، والأب يُغلق هواتف العمل، والأم تملأ الأركان ببهجة لا تُصطنع. كان الجدّ يدعو، والجدة تقبّل الجباه، والقلوب تتعانق قبل الأيادي، كنا نضحك من القلب، لا من خلف رموز تعبيرية صفراء باردة. أما اليوم، فكأن الجمعة أصبحت يومًا عاديًا في جدول مزدحم باللاوقت، التواصل تحوّل إلى "جروبات" صامتة، وبدلًا من لُقمة ساخنة على طاولة العائلة، أصبح كلٌّ يأكل على عجل أمام شاشة، يُرسل ملصقًا فيه وردة ويظن أنه زار. اللمة التي كانت تُصلح ما أفسده الأسبوع، أصبحت ذكرى مؤرشفة على فيسبوك، أو منشور حنين تُعلّق عليه الأمهات بكلمة: "يا رب يرجع الزمن الجميل"، لكن الزمن لم يذهب بعيدًا، نحن من ابتعدنا عنه خطوة خطوة، حتى صارت الجمعة بلا لمة، والبيوت بلا دفء، والأحاديث بلا روح. ربما آن الأوان لنغلق الإنترنت ساعة، ونفتح الأبواب والنوافذ للوجوه الحقيقية، نطبخ معًا، نأكل معًا، نضحك ونختلف ونتصالح، لكن تحت سقف واحد، لا على خيط شبكة. ما أحوجنا إلى الجمعة.. تلك التي كانت عائلة تمشي على قدمين.