كل عام وأنتم بخير.. مع نسمات صباح يوم العيد، أردد مع أبي الطيب المتنبي تساؤله الشجي: بأية حال عدت يا عيد.. بما مضي أم بأمر فيك تجديد؟ والحقيقة أنني أجد نفسي أسيرا لحنين إلي »ما مضي»، بينما لا أميل إلي ما أتت به أعياد هذا الزمان من »تجديد». ففيما مضي كانت أيام العيد، وقتا مستقطعا من أعباء الحياة، واحة لتجديد الروح وإراحة الجسد، صلة للأرحام، وإنعاشا للمودة بين الناس، فرصة لمعانقة وجوه ربما لا نراها إلا مرة في العام.. لكن في أعياد اليوم، تلتصق أعيننا بشاشات الهواتف، تعانق صورا باردة، ومشاعر معلبة، أنتجتها تقنيات الجرافيك، التي لا تستشعر دفء كلمة »كل سنة وأنت طيب»، لا تعرف لمعة عيون الأهل والأصدقاء وهي تصافح بشوق الوجوه بعد غياب. هواتفنا تضج بتهاني من كل لون وشكل، تأتينا من بلاد بعيدة، ومن جيران لا تفصلنا عنهم سوي جدران، كل التهاني متشابهة، بلا روح ولا طعم، ورغم زحام التهاني تجد نفسك أقرب إلي أن تكون وحيدا، تفتقر ملمس مصافحة الجيران، وقوة عناق الأصدقاء، وحنية سؤال الأهل عن صحتك وأحوالك.. حتي شعائر عيد الأضحي التي كانت تمنح تلك الأيام مذاقا خاصا، تحولت إلي مشاعر إلكترونية، فضغوط الحياة دفعت بكثيرين إلي الاستعانة بصكوك الأضاحي بديلا لشعيرة الذبح - وأنا لا ألوم أو أنتقد هذا التجديد- لكن الأكيد أننا نَحِن لتلك الفرحة التي كانت تجتاح قلوبنا ونحن نلعب مع خروف العيد، ونفتقد حتي لتلك الخفقة التي تعتصر القلب وسكين الجزار تتحرك فوق رقبة الخروف الذي بات صديقا لطفولتنا، بينما شفاه الأب والأم، المحتضنين لصمتنا الحزين، تتمتم بدعوات القبول. الآن كل شيئ يمكن أن يتم في لحظة وأنت تمسك بهاتفك، تحول الأموال، أو تدفع مقابل أضحيتك، فتحصل علي ورقة صماء، لا تعوضك شيئا عن تلك الفرحة الصاخبة التي كان يدخلها إلي القلوب خروف العيد. حتي أعظم أركان الإسلام، وهو الحج لم ينج من ذلك »التجديد»، فبعدما كان الحج فرارا إلي الله، وهروبا إليه طمعا في واسع مغفرته، وكان من ينعم الله عليه بالحج موضع غبطة المشتاقين إلي زيارة البيت الحرام، صار الحج اليوم تجارة مربحة، وليس تجارة مع الله، تحول إلي بيزنس وموسم يجني من ورائه المستغلون لأشواق الحالمين بالوقوف علي عرفات، ملايين الجنيهات، من تجارة في التأشيرات، وتلاعب بأسعار تذاكر الطيران، ومتاجرة بأسعار الإقامة في المشاعر المقدسة. بالغ المستغلون في تربحهم، فتواري المشتاقون الحقيقيون خلف صمتهم وضيق ذات يدهم، بينما تصدر المشهد من يظنون أنهم يشترون بأموالهم صكوك الغفران بالحج كل عام، وهؤلاء تشغلهم ألوان الأطعمة التي ترفع علي موائدهم في رحلة الحج، أكثر من انشغالهم بأكف الضراعة التي ينبغي أن ترفع إلي السماء في تلك الرحلة المقدسة. لو عاش المتنبي معنا في زمن عيد الواتساب، وخرفان الصكوك، وحج السبع نجوم، لربما وجدته مثلي اليوم يحن إلي ما مضي، ولا يعجب كثيرا بما فيه تجديد!!