من بين الدمار، من بين الغبار، ومن تحت الركام، خرجت صرخة صغيرة لطفل فلسطيني نازح، تحمل من الألم ما لا تقدر الجبال على احتماله، قالها وهو يحمل شقيقته الرضيعة على ظهره، يمشي وحده في طريق فقد فيه كل شيء، قالها بكلمة واحدة اختزلت كل المآسى: "يا أمه". هذا المشهد، الذى وثقته الكاميرات مؤخرًا فى شمال قطاع غزة، ليس مشهدًا سينمائيًا، ولا مشهدًا عابرًا فى نشرات الأخبار، بل هو مشهد يومى من حياة أكثر من مليون ونصف نازح فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال، الذين تركوا بيوتهم مدمرة، وذكرياتهم تحت الركام، وأحلامهم معلقة فى هواء الحرب. الطفل، الذى لم يعلن عن اسمه، لم يكن يحمل شقيقته فقط، بل كان يحمل القضية كلها، يحمل سؤالًا كبيرًا: أين أمه؟ وربما: أين العالم؟ كان يمشى فى طريق النزوح الأخير، بعد أن قصفت منطقته بالكامل، وفقد عائلته أو فصل عنها فى فوضى الهرب. أصبحت كلمة "يا أمه" مرادفًا لصوت غزة كلها، صوت شعب ترتكب بحقه جرائم إبادة ممنهجة، ولا يزال يطلب منه أن يصمت، أن يبرر موته، وأن يعتذر عن دمائه. وفقًا لتقارير الأممالمتحدة، فإن أكثر من 1.9 مليون فلسطيني داخل قطاع غزة قد نزحوا منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير، وهو ما يشكل نحو 90٪ من سكان القطاع، كثيرون نزحوا أكثر من 10 مرات، من حى إلى حى، ومن ملجأ إلى آخر، دون وجهة آمنة. الأطفال هم الضحايا الأبرز في هذه الكارثة الإنسانية، تقرير حديث لمنظمة Save the Children يشير إلى أن نحو 893 ألف طفل نزحوا داخل القطاع، كثير منهم فقدوا أحد والديهم أو كليهما. وتؤكد إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية أن أكثر من 15,613 طفلًا قتلوا في هذا العدوان، في حين أصبح 39,384 طفلًا يتيمًا أو فاقدًا لأحد الوالدين، منهم 17 ألف يتيم بالكامل. أرقام مرعبة، لا تنتمي إلى عالم يفترض أنه تحضر للإنسانية والحقوق، فهناك أطفال يولدون تحت القصف، ويموتون قبل أن يعرفوا كيف ينطق اسمهم، أو كيف تنطق كلمة "أمي". أغلب المدارس في قطاع غزة إما دمرت أو تحولت إلى ملاجئ مؤقتة، فهناك أكثر من 658 ألف طالب باتوا خارج مقاعد الدراسة، بعضهم لا يملك حتى قلمًا أو كراسة، ناهيك عن فقدان الشعور بالأمان أو الاستقرار النفسي. في ظل غياب الغذاء، والمياه النظيفة، والأدوية، وخدمات الصحة النفسية، بات الأطفال النازحون عرضة لصدمات نفسية عميقة، من المتوقع أن تبقى آثارها لعقود. "يا أمه" ليست مجرد صرخة من طفل يبحث عن أمه، بل هى صرخة من وطن يبحث عن الحياة، من شعب يبحث عن حقه في البقاء، من طفولة تبحث عن حضن، لا عن قبر. هذا الطفل، النازح، الذي لم يعد يملك شيئًا إلا شقيقته الرضيعة، ربما لن يتذكر شيئًا مما يحدث اليوم حين يكبر، لكنه سيكبر بعينين شابتين قبل أوانهما، وبقلب مثقل بالخسارات. أين العالم؟ العالم، فى كثير من الأحيان، يسمع لكنه لا ينصت، يرى لكنه لا يتحرك، يتعاطف، لكنه لا يضغط، وبينما تتواصل الإدانات الشكلية، تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في استهداف المدنيين، دون أى رادع قانوني أو أخلاقي. هل تكفى صورة طفل يحمل شقيقته ليهتز ضمير العالم؟ هل تكفى "يا أمه" لتتحرك المؤسسات الدولية؟ هل يكفى هذا المقال ليحدث فرقًا؟ ربما لا. لكنه على الأقل، شهادة. شهادة على أن هناك شعبًا يباد، وأطفالًا يتركون وحدهم، يصرخون: "يا أمه"، فلا يجيبهم أحد.