منذ عام 2014، ومع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، دخلت السياسة الخارجية المصرية مرحلة إعادة التأسيس والتأطير الاستراتيجي، بما يعكس إدراكًا عميقًا للتحديات الإقليمية والتحولات الدولية، هذه المرحلة لم تكن امتدادا آليًا للسياسات السابقة، بل مثلت انطلاقة جديدة قائمة على مبدأ إعادة التموضع الشامل، حيث أصبح الهدف الأساسي هو تعزيز مكانة مصر كفاعل إقليمي مركزي وقوة دولية صاعدة، قادرة على التكيف مع بنية النظام الدولي المتغير وصياغة مصالحها عبر أدوات القوة الصلبة والناعمة معًا. ارتكزت هذه المقاربة على قناعة بأن أحادية القطبية التي تهيمن عليها الولاياتالمتحدة لم تعد قادرة على فرض استقرار النظام العالمي، وأن التعددية القطبية الناشئة – عبر صعود الصين وعودة روسيا وتعاظم أدوار القوى الإقليمية – تفتح أمام مصر فرصًا ومساحات مناورة واسعة، لذا انتهجت القاهرة سياسة خارجية أكثر استقلالية وتوازنًا، تقوم على تنويع الشراكات الاستراتيجية، وتجنب الارتباط بمحور دولي واحد، بما يمنحها مرونة في التعامل مع الأزمات الإقليمية والضغوط الدولية، ومن هنا جاءت صياغة علاقات متوازنة مع الولاياتالمتحدة من ناحية، والانفتاح المتسارع على روسياوالصين والهند من ناحية أخرى، إضافة إلى تطوير شراكات اقتصادية وأمنية مع الاتحاد الأوروبي، والانخراط في الأطر الجديدة للتعاون الجنوبي–الجنوبي. هذا التحول لم يكن سياسيًا فقط، بل كان اقتصاديًا بالأساس، إذ أدركت القيادة المصرية أن النفوذ في عالم اليوم لا يُبنى فقط على القدرات العسكرية، بل على قوة الاندماج في الاقتصاد العالمي، ومن ثم رُبطت السياسة الخارجية بمسار الإصلاح الاقتصادي وبرؤية مصر 2030، التي جعلت من الاستثمار والبنية التحتية والطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر قضايا ذات أولوية قصوى في التفاعلات الدولية، وفي هذا الإطار، برزت منصة منتدى غاز شرق المتوسط كأحد الإنجازات الاستراتيجية التي رسخت مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة، وحولتها من دولة مستهلكة إلى محور رئيسي في تجارة الغاز العالمية، بما يمنحها أدوات تأثير مباشر في معادلات الأمن الطاقوي الأوروبي والدولي. في السياق الإفريقي، أعادت مصر بناء حضورها بفاعلية بعد سنوات من التراجع، مستثمرة في عضويتها ورئاستها للاتحاد الإفريقي عام 2019، ومؤكدة على دورها كجسر بين إفريقيا والعالم، لم يكن هذا الانخراط مجرد نشاط دبلوماسي، بل جاء مدعومًا بأدوات اقتصادية وتنموية، عبر مشروعات البنية التحتية والربط الكهربائي، وتبني أجندة الأمن الغذائي والمائي، وفي ملف سد النهضة، برزت مصر كدولة تنتهج مقاربة مزدوجة: الجمع بين الحفاظ على حقوقها المائية كقضية وجودية، وبين الانخراط في الحلول التفاوضية والقانونية متعددة الأطراف، ما يعكس عقلانية سياسية تدرك أن أمن مصر المائي لا ينفصل عن معادلة أمن إقليمي أشمل. وعلى المستوى العربي، انطلقت السياسة الخارجية من عقيدة أن الأمن القومي المصري لا يمكن فصله عن الأمن القومي العربي، ولذلك تبنت القاهرة مبدأ دعم الدولة الوطنية في مواجهة مشاريع التفكيك والميليشيات العابرة للحدود، وقد تجلى ذلك بوضوح في انخراطها في الأزمة الليبية، حيث سعت إلى منع انهيار الدولة ودعمت بناء مؤسساتها الشرعية، وفي الأزمة السودانية التي تعاملت معها من منطلق الحفاظ على استقرار الإقليم الحيوي جنوب مصر، فضلًا عن استمرار دورها التاريخي في القضية الفلسطينية، عبر رعاية جهود التهدئة والمصالحة، ورفض أي محاولات لفرض حلول أحادية أو تهجير قسري للفلسطينيين، هذه المواقف مجتمعة تعكس تمسك القاهرة بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة كركيزة للأمن الإقليمي. أما على المستوى الدولي، فقد شهدت السياسة الخارجية المصرية طفرة نوعية في الحضور داخل المنظمات والتكتلات الاقتصادية والسياسية. فمصر لم تعد تكتفي بدور المراقب أو المتلقي، بل أصبحت جزءًا فاعلًا في الأطر الدولية، سواء من خلال استضافتها لمؤتمرات كبرى مثل قمة المناخ COP27، أو عبر انضمامها إلى تكتلات اقتصادية كبرى مثل مجموعة البريكس، أو مشاركتها الدورية في قمم مجموعة العشرين. هذه المشاركة ليست رمزية، وإنما تعكس وعيًا استراتيجيًا بضرورة إعادة إدماج الاقتصاد المصري في الشبكة الاقتصادية العالمية، وتعزيز قدرة القاهرة على التأثير في قضايا الطاقة والمناخ والتنمية المستدامة، وهي ملفات أصبحت تشكل جوهر الأمن القومي بمعناه الواسع. إن جوهر السياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس السيسي يكمن في قدرتها على الدمج بين الواقعية السياسية والمصالح الاقتصادية، وبين إدارة المخاطر وصناعة الفرص، فهي سياسة ترفض الانعزال أو الارتهان لمحاور ضيقة، وتعمل في الوقت نفسه على بناء استقلالية استراتيجية تتيح لمصر أن تتحرك بمرونة بين القوى الكبرى والإقليمية، وبذلك لم تعد القاهرة مجرد طرف متأثر بتفاعلات النظام الدولي، بل أصبحت فاعلًا مؤثرًا يسعى لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية، وفق رؤية تراعي مصالحها الوطنية وتعيد التأكيد على موقعها كقوة إقليمية صاعدة ذات امتداد دولي. إن هذا المسار يكشف أن مصر في عهد السيسي لم تتعامل مع السياسة الخارجية كأداة تكميلية، وإنما كجزء أساسي من مشروع إعادة بناء الدولة وتعزيز قوتها الشاملة، فالمعادلة التي تحكم هذه الرؤية هي أن الداخل المستقر لا ينفصل عن الخارج الفاعل، وأن التنمية الاقتصادية تحتاج إلى بيئة إقليمية آمنة، وأن استعادة الدور المصري ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتكريس مفهوم الاستقلال الاستراتيجي وحماية المصالح الوطنية في عالم يتسم بتعاظم التنافسية وتشابك المصالح.