مع إعلان نتائج الثانوية العامة، يتكرر المشهد ذاته كل عام، سباق مشتعل نحو ما يعرف تقليديًا بكليات القمة، حيث لا يزال كثير من الطلاب وأولياء الأمور يربطون بين مجموع الدرجات و"هيبة" الكلية، لا بين التخصص وفرص العمل الحقيقية، هذه النظرة، التى تعود لعقود مضت، لم تعد تتناسب مع الواقع الحالى لسوق العمل الذى تغير كثيرًا، وبات يتطلب مهارات نوعية وتخصصات عملية، أكثر من مجرد شهادة مرموقة. فى ظل هذا التغير المتسارع الذى يشهده العالم، لم تعد بعض الكليات النظرية الكبرى تضمن لخريجيها وظيفة، بل أصبحت تعانى من التكدس وغياب الفرص، فى المقابل، يفتح سوق العمل ذراعيه لتخصصات أخرى قد لا تحظى بنفس الاهتمام المجتمعي، لكنها تحمل المستقبل الحقيقى لأولئك الذين يخططون بذكاء، فالمعيار لم يعد المجموع المرتفع أو اسم الكلية، بل مدى قدرة الطالب على الاندماج فى السوق وامتلاك المهارات المطلوبة. تشير المؤشرات الحالية بوضوح إلى الحاجة المتزايدة لتخصصات مثل: الذكاء الاصطناعى، وتحليل البيانات، والأمن السيبرانى، وهندسة البرمجيات، وإدارة الأعمال الرقمية، واللوجستيات، والتسويق الإلكترونى، والتصميم الصناعى، واللغات، والتقنيات الطبية، هذه المجالات باتت تشهد نموًا عالميًا متسارعًا، وتعد من أكثر القطاعات توسعًا وتوظيفًا، ليس فقط فى الدول المتقدمة، بل أيضًا فى العالم العربى الذى بدأ يدرك أهمية التحول الرقمى والاستثمار فى الكفاءات الشابة لبناء اقتصاده الحديث. لم تعد كليات مثل: الحاسبات والمعلومات، أو التجارة بشعبها المتخصصة، أو كليات التكنولوجيا التطبيقية مجرد بدائل اضطرارية، بل أصبحت اليوم فى مقدمة اختيارات أصحاب الرؤية المستقبلية، كما أن الكليات والمعاهد الفنية والتكنولوجية تقدم مسارات تدريبية عملية وتأهيلًا مباشرًا لسوق العمل، بعيدًا عن التكدس النظرى الذى تعانى منه بعض الكليات التقليدية. وفى الوقت نفسه، لا ينبغى الاستمرار فى النظر إلى كليات الطب والهندسة والصيدلة على أنها الخيار الوحيد أو الحلم الأسمى، فرغم ما تحمله هذه الكليات من قيمة علمية ومكانة اجتماعية، فإنها لم تعد تضمن لخريجيها نفس المسار الوظيفى الآمن الذى كان متاحًا فى الماضي، كثير من الخريجين اليوم يقضون سنوات طويلة فى البحث عن فرصة عمل، أو يضطرون للهجرة، أو يعيدون تأهيل أنفسهم فى مجالات أخرى أكثر مرونة وسرعة فى التوظيف. لقد آن الأوان لتغيير العقلية التى تقيس الطالب وفقًا لمجموعه فقط، وكأن التفوق فى الدرجات هو الطريق الوحيد للنجاح، فى الواقع، تؤكد التجربة أن النجاح الحقيقى يرتبط بالاختيار الذكى للتخصص، وبالقدرة على اكتساب المهارات وتطوير الذات باستمرار، الجامعات لا تصنع وحدها المستقبل، بل الشخص الذى يحدد أهدافه بوعى، ويختار ما يناسب قدراته وميوله واحتياجات سوق العمل، هو الأجدر بأن يصنع لنفسه طريقًا ناجحًا. لهذا، فإن طلاب الثانوية العامة الناجحين مدعوون اليوم إلى التفكير بعقلية جديدة، أكثر وعيًا واستقلالًا، إذ هم على أعتاب مرحلة مفصلية فى حياتهم، فيجب أن يكونوا على قدر المسؤولية فى اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، لا بناء على ضغوط الأهل أو رغبات المجتمع، وأقول لهم: "لا تجعلوا اختياراتكم أسيرة لما يعرف بكليات القمة، بل اختاروا ما تحبونه وتؤمنون به، وما يمنحكم مستقبلًا حقيقيًا للعمل والتطور، فالقيمة ليست فى اسم الكلية، بل فى ما تصنعونه لأنفسكم من طريق، وفى قدرتكم على أن تجدوا لأنفسكم مكانًا حقيقيًا فى عالم لا يعترف إلا بالكفاءة والاجتهاد".