من حق الناس أن تتساءل وتندهش من الاهتمام المفاجئ للرئيس الأمريكى دونالد ترامب بقضية "سد النهضة" الإثيوبى وتصريحاته التى تداولتها وكالات الأنباء بشأن السد ووصفه بالتمويل الأمريكى فى مرحلة سابقة ب"الغباء"، وقلقه من تأثيره على الشعب المصرى الذى ترتبط حياته بالنيل..! طوال الأيام الماضية ومنذ أن أطلق ترامب تصريحاته بشأن السد الإثيوبى وهناك سؤال كبير لدى ملايين المصريين "ماذا يريد الرئيس الأمريكى من مصر وما سر الاهتمام المفاجئ..؟؟" . فالتصريحات ظاهرها الرحمة والإنسانية والحرص والاهتمام، وباطنها كثير من المخاوف والشكوك والظنون وتحسس العقول والانتباه..! فالقاصي والداني والصغير والكبير يعرف تاريخ السد ومن وراءه من قام بتوفير التمويل اللازم لإنشائه دون التشاور والتفاوض والتشارك مع باقى الأطراف المعنية باتفاقيات دول حوض مياه النيل منذ بدايات القرن العشرين، وخاصة دول المصب الأكثر تضررا من أية محاولات ومشروعات للتأثير على حصصها من المياه، والكل يعرف أن الولاياتالمتحدةالأمريكية -باعتراف ترامب- كانت أكثر الدول دعما وتمويلا لبناء السد الإثيوبي ولأهداف معروفة. فالمشروع تم إطلاقه في عام 2011 بميزانية بلغت أربعة مليارات دولار، ويعتبر أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا، حيث يبلغ عرضه 1,8 كيلومتر وارتفاعه 145 متراً، وتعتبر أديس أبابا أن السد ضروري لتوفير الكهرباء، لكنه شكّل مصدر توتر مع مصر والسودان اللتين تبديان قلقهما من تأثيره المحتمل على إمدادات المياه. والمفارقة أن ترامب -الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدةالأمريكية- صرح فى فترة رئاسته الأولى (2016-2020) بأن إثيوبيا لها الحق فى بناء السد لكنه أبدى قلقا بشأن تأثيره على مصر والسودان، وهى التصريحات التى أثارت قلقا فى القاهرة والخرطوم من الموقف الأمريكى. التصريحات الأخيرة جاءت خلال لقاء ترامب مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته في البيت الأبيض بواشنطن أمس الأول وأكد أن الولاياتالمتحدة تعمل على حل مشكلة سد النهضة الإثيوبي، مؤكدا أن بلاده "ستحلّ هذه المشكلة بسرعة كبيرة". ترامب قال أيضا: "لقد عملنا على ملف مصر مع جارتها المجاورة (إثيوبيا)، وهي دولة كانت جارة جيدة وصديقًا لنا، لكنها قامت ببناء سد أغلق تدفّق المياه إلى ما يُعرف بنهر النيل. السد يمثل مشكلة كبيرة".. ترامب أوضح أن الولاياتالمتحدة هي من موّلت بناء السد، قائلا: "لا أعلم لماذا لم يحلوا المشكلة قبل أن يبنوا السد. لكن من الجميل أن يكون هناك ماء في نهر النيل. فهو مصدر مهم للغاية للدخل والحياة. إنه شريان الحياة بالنسبة لمصر. وأخذ ذلك بعيدًا أمر لا يُصدق". الرئيس عبد الفتاح السيسي رد على تصريحات ترامب بمنتهى الدبلوماسية والوعي والعقل وثمن تصريحات الرئيس الأمريكى، بشأن حرصه على التوصل إلى اتفاق عادل بخصوص ملف السد الإثيوبي، وقال الرئيس على صفحته بموقع الفيس بوك "تثمن مصر تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي تبرهن على جدية الولاياتالمتحدة تحت قيادته في بذل الجهود لتسوية النزاعات ووقف الحروب"، وتابع: "أن مصر تؤكد ثقتها فى قدرة الرئيس ترامب على حل المشاكل المعقدة وإرساء السلام والاستقرار والأمن فى مختلف ربوع العالم، سواء كان ذلك في أوكرانيا، أو الأراضي الفلسطينية، أو أفريقيا". الرئيس السيسي قال أيضا إن مصر "تقدر حرص الرئيس ترامب على التوصل إلى اتفاق عادل يحفظ مصالح الجميع حول السد الإثيوبي، وتأكيده على ما يمثله النيل لمصر كمصدر للحياة". وأن مصر تجدد دعمها لرؤية الرئيس ترامب في إرساء السلام العادل والأمن والاستقرار لجميع دول المنطقة والعالم. الرد الرسمي لم يمنع من طرح السؤال حول سر الاهتمام الأمريكي المفاجئ بقضية سد النهضة وما وراء هذا الاهتمام وكيف يمكن فهمه وفي أي سياق وإطار سياسي ودبلوماسي، فلماذا الآن تصدر تلك التصريحات وما المراد والهدف منها. فمصر استطاعت بحنكة ووعي وتخطيط مدروس ودبلوماسية عاقلة وقوة رشيدة أن تتعامل مع قضية السد دون التورط في أية مغامرات قد تؤدي إلى تعقيدات الأوضاع ولم تنساق خلف التشنجات والمتاجرة بقضية السد والدعاية المستفزة، واستعدت مصر لكافة الاحتمالات بمشروعات وإجراءات قد يتسبب فيها انهيار السد أو حتى ملأه في أوقات الجفاف وهو ما كانت تحذر منه مصر، وما حدث أن الملء جاء في أوقات الفيضان فلم تتأثر حصة مصر من المياه بل وامتلأ مفيض تشكى. وطوال الفترة الماضية ومصر تطالب بالتعاون المشترك لتحقيق المصالح الوطنية لدى كافة الأطراف في إثيوبيا ومصر والسودان، وباتفاق قانوني ملزم يسمح بالمشاركة في إدارة وتشغيل السد وفقا للأمور الفنية. نعود إلى السؤال الأساسي مصدر الدهشة من الاهتمام المفاجئ للرئيس الأمريكي: وماذا يريد ترامب، هل يتطوع في الضغط من أجل توقيع اتفاق قانوني يرضي كافة الأطراف وبالتالي تهدأ الأوضاع في منطقة حوض النيل بفضل الرئيس الأمريكي المرشح لجائزة نوبل للسلام..؟!! العلاقات المصرية الأمريكية هي علاقات استراتيجية تحقق المصالح المشتركة للجانبين والحفاظ على الاستقرار والسلام في المنطقة... دون التفريط في المصلحة الوطنية المصرية بالتوازن في علاقتها الخارجية والتزامها بقضايا أمتها العربية وقارتها السمراء وخاصة القضية الفلسطينية، والفترة الأخيرة شهدت بعض التباينات في المواقف السياسية بين القاهرة وواشنطن وخاصة في الموقف من حرب الإبادة والتجويع والحصار ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومخططات التهجير الى خارج أرضه. مصر لديها مواقفها السياسية الواضحة في كافة الملفات الدولية والإقليمية وترفض سياسات المساومة والمقايضة، التي تتعارض ومصالحها وثوابتها الوطنية والقومية واستقلال قراراها الوطني الذي ينبغي على الجميع احترامها وتقديرها. التفسيرات تذهب إلى أن القضية ليست قضية سد النهضة التي يبدي ترامب الاهتمام بها بصورة مفاجئة وفي اجتماع مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي وهو حلف عسكري تقوده الولاياتالمتحدة، وإنما قضية يتوارى خلفها قضايا وأهداف أخرى تتقاطع مع المصالح الوطنية المصرية، مصر تقف ضد مخططات التهجير للشعب الفلسطيني من أرضه، مصر تسعى لتنويع علاقاتها الاستراتيجية مع كافة دول العالم وفي كافة مجالات التعاون المدني والعسكري، مصر تتعدد عضوياتها في تجمعات إقليمية ودولية تحقق مصالحها الوطنية ومنها عضوية مجموعة "البريكس"، ومصر ضد فرض الهيمنة وممارسة بلطجة الدولة من قبل إسرائيل ضد دول في المنطقة وضد الشعب الفلسطيني دون احترام والتزام بالقوانين والمواثيق الدولية، ومصر لن تخضع لأية مساومة على أمنها المائي وتدرك جيدا مخاطر بناء السدود على مجرى النهر دون تعاون أو تشاور وتفاوض أو دراسات علمية سليمة. مرحبا بتصريحات ترامب واهتمامه من أجل إرساء السلام والاستقرار فى المنطقة، لكن دون "أوراق مساومات" أو ضغوط.