انطلقت مصر في رحلة طموحة لدمج الذكاء الاصطناعي في قطاعاتها الرئيسية، مدفوعةً برؤيةٍ لتعزيز اقتصاد قائم على المعرفة وتحسين جودة مناحي الحياة، وبينما يُمهد هذا المسار بفرصٍ واعدة، فإنه يُمثّل أيضًا مجموعةً فريدةً من التحديات التي يجب على مصر مواجهتها استراتيجيًا. المشهد الحالي: سوقٌ سريع النمو يشهد سوق الذكاء الاصطنا عي في مصر نموًا ملحوظًا، حيث تُشير توقعات مؤسسة statista للأبحاث إلى أن قيمته ستبلغ حوالي 1.8 مليار دولار خلال 2025 بزيادة 29% عن 2024 ، ومن المتوقع أن ترتفع 4.40 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2031، ويُعزى هذا التوسع القوي إلى تزايد اعتماد التقنيات الرقمية، والدعم الحكومي القوي، وبيئة ناشئة مزدهرة للشركات الناشئة. أظهرت مصر مبادراتٍ فعّالة، حيث احتلت المرتبة الثانية في جاهزية الذكاء الاصطناعي في إفريقيا، والسابعة بين الدول العربية في مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي الحكومي لعام 2022. وبحلول عام 2023، بلغ عدد شركات الذكاء الاصطناعي المتخصصة العاملة في مصر حوالي 246 شركة، مما يعكس بيئةً نابضةً بالحياة، وإن كانت لا تزال في بداياتها. يتجلى الموقف الاستباقي للحكومة في إطلاق المجلس القومي للذكاء الاصطناعي (NCAI) عام 2019، والإصدار اللاحق للاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في مصر (2025-2030)، والتي تُحدد خارطة طريق شاملة لدمج الذكاء الاصطناعي. الفرص: الذكاء الاصطناعي كمحفز للتنمية الوطنية يتمتع الذكاء الاصطناعي بإمكانيات هائلة لإطلاق العنان لكفاءات جديدة ودفع عجلة التنمية المستدامة في مختلف القطاعات الحيوية في مصر: (أولا) الرعاية الصحية: من المتوقع أن تُحدث الحلول المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل التطبيب عن بُعد، وأدوات التشخيص، وأنظمة إدارة المرضى، ثورةً في تقديم الرعاية الصحية، و تم بالفعل نشر تطبيق قائم على الذكاء الاصطناعي لتشخيص بعض الأمراض بدقة تزيد عن 95%، مما يُظهر الأثر الملموس للذكاء الاصطناعي في تحسين نتائج المرضى وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، لا سيما في المناطق النائية. (ثانيا) الزراعة: بصفته قطاعًا حيويًا للأمن الغذائي، يُمكن للذكاء الاصطناعي تحسين الممارسات الزراعية من خلال الزراعة الدقيقة، ومراقبة المحاصيل، والتحليلات التنبؤية، حيث تُوفر أجهزة الاستشعار الذكية والطائرات بدون طيار بياناتٍ لاتخاذ قراراتٍ مدروسة بشأن الري والتسميد ومكافحة الآفات، مما يُعززالإدارة المستدامة للموارد. (ثالثا) المدن الذكية والتنمية الحضرية: مع مشاريع طموحة مثل العاصمة الإدارية الجديدة، يُعد الذكاء الاصطناعي أمرًا بالغ الأهمية لإنشاء بيئات حضرية فعّالة ومستدامة ومريحة، يُمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحسين تدفق حركة المرور، ومراقبة جودة الهواء، وتعزيز السلامة العامة، وتبسيط إدارة المرافق بشكل آمن. التحديات: شق طريق اعتماد الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع على الرغم من التوقعات الواعدة، تواجه مصر العديد من التحديات الرئيسية في الاستفادة الكاملة من إمكانات الذكاء الاصطناعي: (أولا) توافر البيانات وجودتها: تعتمد نماذج الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على كميات هائلة من البيانات عالية الجودة، تحتاج مصر إلى تعزيز أطر حوكمة البيانات، وضمان خصوصية البيانات وأمنها، وتطوير مجموعات بيانات شاملة ومتكاملة وقابلة للمشاركة عبر القطاعات، بما في ذلك إنشاء مجموعات بيانات عالية الجودة باللغة العربية. (ثانيا) البنية التحتية والقدرة الحاسوبية: يتطلب النشر الفعال للذكاء الاصطناعي بنية تحتية رقمية قوية، بما في ذلك مراكز بيانات مُوسعة، ووصول عالي السرعة إلى الإنترنت (مثل شبكات الجيل الخامس)، وموارد كافية للحوسبة السحابية، في حين أن الاستثمارات جارية، يُعدّ وجود بنية تحتية حاسوبية محلية أمرًا حيويًا لدعم مجموعة واسعة من التطبيقات وتقليل المخاطر الأمنية. (ثالثا) فجوة المواهب وبناء القدرات: على الرغم من أن مصر تتمتع بشعب شاب ذي خبرة تقنية عالية، إلا أن هناك حاجة مُلحة إلى مهارات أكثر تخصصًا في تطوير الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات والتعلم الآلي. تهدف جهود مثل مبادرة أشبال مصر الرقمية (DECI) وإنشاء جامعة مصر للمعلوماتية (EUI) إلى معالجة هذا الأمر، إلا أن برامج تطوير المهارات وإعادة تأهيلها بشكل مستمر ضرورية لتلبية متطلبات السوق. (رابعا) الانطباع العام والثقة: يمكن أن تعيق المخاوف الشائعة بشأن الذكاء الاصطناعي، وخاصةً بشأن فقدان الوظائف والخصوصية، قبوله على نطاق أوسع، يتطلب تحويل الرأي العام نحو تبني الذكاء الاصطناعي حملات توعية واسعة النطاق وإظهار فوائد ملموسة. (خامسا) الأطر الأخلاقية والتنظيمية: يُعد ضمان الاستخدام المسؤول والأخلاقي للذكاء الاصطناعي أمرًا بالغ الأهمية، في حين أن مصر كانت أول دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تلتزم بمبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول، وأصدرت الميثاق المصري للذكاء الاصطناعي المسؤول، إلا أن التطوير المستمر والتنفيذ الدقيق للتشريعات التنفيذية المصاحبة ضروري لمعالجة قضايا مثل التحيز والشفافية والمساءلة والمسؤولية القانونية. (سادسا) التمويل والاستثمار: يُعد الاستثمار المستدام والكبير في أبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى دعم الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة، أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز تنافسية صناعة الذكاء الاصطناعي المحلية. الطريق إلى الأمام: نهج استراتيجي وتعاوني يحمل مسار الذكاء الاصطناعي في مصر وعودًا هائلة وعقبات كبيرة في آن واحد، ومن خلال التصدي الدؤوب للتحديات المتعلقة بالبيانات والبنية التحتية والمواهب والحوكمة الأخلاقية، والاستفادة الاستراتيجية من الفرص العديدة المتاحة، يمكن لمصر أن تصبح رائدةً حقًا في الاقتصاد الرقمي العالمي، مُسخّرةً الذكاء الاصطناعي لصالح جميع مواطنيها، ومُرسّخةً مكانتها كقوة تحويلية في المنطقة.