فى اعتقادى أن العمل الكبير فيلم "الوصية"، الذى كتبه وأخرجه الدكتور محمد سعيد محفوظ عن حياة قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، ليس مجرد عملاً متخصصاً فى الدراما الوثائقية فحسب، ولكنه عمل يقرأ الماضى بكل ما فيه، ويستشرف المستقبل بكل ما نتطلع إليه. كل منا ارتبط وجدانياً بالشيخ محمد رفعت، الذى يمثل صوته راحة نفسية للمسلمين وغيرهم من الأديان الأخرى، هو صوت تجاوز حدود الزمن من الماضى إلى الحاضر، ولازال ينطلق بنفس القوة نحو المستقبل. فى أمسية استثنائية سادت فيها روحانيات التلاوة، احتضنت قاعة الحكمة بساقية الصاوى عرض الفيلم الوثائقى "الوصية"، إنتاج مؤسسة "ميديا توبيا"، عن سيناريو وإخراج الدكتور محمد سعيد محفوظ، الرئيس التنفيذى للمؤسسة. جاء عرض الفيلم إحياءً للذكرى الخامسة والسبعين لرحيل قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت، الرمز الذى لا يزال صوته عنصر التأثير الأكبر فى وجدان الأمة رغم مرور كل هذه العقود. أجواء إيمانية وروحانية سادت القاعة، عندما افتتحت الأمسية بتلاوة نادرة للشيخ محمد رفعت من سورة الأعراف، أُعيد ترميمها بعناية فى مدينة الإنتاج الإعلامى، لتكون بمثابة تمهيد وجدانى بصوت السماء المقرب إلى المصريين جميعاً، ليهيئ الحضور لما سيأتى من مفاجآت وكنوز تكشف عنها هذه الدراما الوثائقية. الدراما الوثائقية التى حملت عنوان "الوصية"، لم تكن مجرد عمل فنى، بل وثيقة تاريخية وإنسانية لعصر ذهبى بكل ما فيه من طوائف مجتمعية وأحداث ومحطات فاصلة، استطاع من خلالها الدكتور محمد سعيد محفوظ أن يعيد فتح ملفات تراث الشيخ محمد رفعت، التى أهملت للأسف العميق عبر عقود طويلة، ويكشف عن كنزٍ نادرٍ تمثل فى تسجيلات لم تُعرض من قبل، قام بتسجيلها زكريا باشا مهران، أحد أصدقاء الشيخ المقربين، والتى تُمثّل نحو 70% من إرثه الصوتى الكبير. هذه التسجيلات، التى ظهرت بالصدفة، تمثل اكتشافًا صحفياً وإعلامياً، قبل أن تكون وثيقة جديدة وإضافة هامة فى تاريخ دولة التلاوة المصرية. استطاع الفيلم أن يجمع بين عناصر الدراما والتوثيق، فمزج بين البحث الأكاديمى والرؤية الإخراجية البصرية الممتعة، ليقدّم لنا صورة إنسانية شاملة عن الشيخ محمد رفعت وحياته وأسرته، بعيدًا عن الصورة النمطية لصوت رخيم ارتبطنا به فحسب، بل كروح ممتلئة بالورع، وعقل يبحر فى أدوات وجماليات الترتيل، وعاطفة صادقة متجددة كان لها حضورٌ خاصٌ فى كل آية يتلوها، وعظمة دفعته لأن يكون فى مكان آخر بعيداً عن المقارنة بأصوات عصره أو من جاءوا من بعده من عظماء التلاوة. المفاجأة الجديدة التى تضيف إلى تفرده فى تقمص الشخصيات المعقدة، هو أداء الفنان محمد فهيم الذى جسد دور الشيخ محمد رفعت، قدّم أداء صادقًا وأميناً لصورة القارئ الخاشع والإنسان المتأمل، مدعومًا بعناصر فنية متكاملة من تصوير وموسيقى ومونتاج، صاغت جميعها عملاً نال استحسان الحضور، الذى لم يبخل بتصفيقه إعجابًا مع نهاية العرض. الملفت فى كلمة كاتب السيناريو ومخرج العمل الدكتور محمد سعيد محفوظ خلال المناقشات قوله: "إننا لا نحيى فقط ذكرى قارئ عظيم، بل نعيد الاعتبار لصوتٍ كان ولا يزال درة تاج دولة التلاوة. وقد شاءت الأقدار أن أتمعن فى سيرته قبل عامين، فوجدت فى رحلته ما يستحق أن يُروى وأن يُعاد اكتشافه". وفى اعتقادى أن هذا هو الدور الحقيقى للإعلام وللثقافة المصرية بريادتها وتاريخها العميق. الحفل شهد حضوراً لا يقل عن قوة العمل، ضم عدداً كبيراً من الشخصيات العامة والفنية، يتقدمهم الدكتور أسامة الأزهرى، وزير الأوقاف، الذى عبّر عن سعادته البالغة بهذا الحدث، واصفًا الشيخ محمد رفعت بأنه "نفحة استثنائية لا تتكرر"، وصوت عبقرى يحمل أداء صادقًا وروحاً طاغية، وحالة فريدة من التماهى بين النفس والنص. الوزير تحدث عن عظمة دولة التلاوة المصرية، التى أنجبت عباقرة من طراز خاص، كالحصرى والمنشاوى ومصطفى إسماعيل، وكان الشيخ محمد رفعت فى طليعتهم، حيث مثّل حالةً روحانيةً غير قابلة للتكرار، فصوته لم يكن مجرد حنجرة ذهبية، بل طاقة نورانية تسرى فى القلوب، لتجدد الروح. الدكتور أسامة الأزهرى تحدث فى قضية تمثل صورة المستقبل الذى نتطلع إليه جميعاً، وهى ضرورة مواصلة دعم واكتشاف المواهب الجديدة، التى تمثل امتدادًا حقيقيًا لتلك المدرسة الخالدة، فالقرآن الكريم لا تنفد عجائبه، ومن صَدَق فى التلاوة بلغ بروحه ما لا يُبلَغ بالصوت وحده. هذا هو دور الدولة الحقيقى، الذى نتطلع إليه، فمصر هى "دولة التلاوة" وستظل، طالما بقى الوجدان المصرى بحيويته المتجددة فى كل وقت وحين. "الوصية" ليس مجرد فيلم، بل حدث ثقافى وإنسانى أعاد إلى الأذهان مكانة قارئ لا يُنسى، وصوت يتلو وكأنما يتلو لكل منا بمفرده . [email protected]