مما لا شك فيه أن حالة عدم الاستقرار باتت الظاهرة الأكثر شيوعا في عالم يبدو في طور التغيير، فبعدما كانت مقتصرة لعقود طويلة من الزمان على مناطق مستباحة دوليا، لتحقيق أهداف القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الشرق الأوسط، وأفريقيا، مرورا بالقارة الآسيوية، وإن اختلفت الدرجات في كل منطقة عن الأخر، امتدت وتفاقمت تلك الحالة، لتطال المعسكر الغربي، في عقر داره، وهو ما يبدو في إطار الأزمة الأوكرانية، أو حتى في التوتر الأمريكي الأوروبي، على خلفية تجارية اقتصادية، جراء عودة الولاياتالمتحدة إلى عصر الحمائية التجارية، لتضرب بعرض الحائط مبادئ حرية التجارة التي طالما دعت إليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينات من القرن الماضي. ولعل تحول حالة "عدم الاستقرار" إلى ظاهرة عالمية، ليس أمرا لحظيا، في ضوء مستجدات غزة، والتي تمثل جزءً لا يتجزأ من إرث طويل من الصراع العربي الإسرائيلي، هيمن على العلاقات الإقليمية بالشرق الأوسط، أو على الجانب الآخر في أوكرانيا، والتي تمثل هي الأخرى إرثا من الصراع بين الغرب وروسيا، وإن كانت قد هدأت وتيرته منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينات، إلا أن تسارع الأحداث وتواتر التطورات هنا أو هناك، باتت تفرض واقعا جديدا، خاصة على "دول العالم الأول"، والتي أصبحت تتشابه في ظروفها ومستجداتها مع المناطق التي تعاني من صراعات مستمرة ومتواصلة، لتكشف في واقع الأمر حقيقة المبادئ التي طالما روجت إليها القوى الكبرى، باعتبارها الحل الأمثل لكافة التحديات، على غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والتي أصبحت نفسها أحد أدوات عدم الاستقرار في بعض الأحيان، والتي قد تصل إلى حد الفوضى. فلو نظرنا إلى صعود اليمين المتطرف تارة واليسار تارة أخرى في عدة دول أوروبية، نجد أن ثمة تحولا واضحا نحو الاستقطاب داخل القارة العجوز، والتي كانت نموذجا للانسجام، سواء في سياساتها أو توجهاتها، وهو ما يخلق توترا، ليس فقط في إطار الصراعات السياسية داخل كل دولة، وإنما أيضا في الإطار البيني (بين دول القارة)، وهو ما يمثل تهديدا جديدا لحالة الاتحاد، ناهيك عن الارتباك الملموس في العلاقة مع واشنطن، تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، والذي لا يبدو منسجما مع حالة الوحدة الأوروبية، وهو ما بدت إرهاصاته منذ الولاية الأولى، من خلال مساعيه لتفكيكها، من بوابة بريطانيا، والتي انفصلت فعليا منذ عدة سنوات. التعقيدات المتشابكة في المشهد العالمي، بين الشرق والغرب، في ضوء التمدد الجغرافي والزمني لحالة الفوضى، وإن كانت بدرجات مختلفة، خلق ارتباطا عضويا، بين الأقاليم، في ظل الحاجة المشتركة إلى الاستقرار، وهو الأمر الذي يتطلب تعزيز مفهوم الشراكة، والتكامل، ليس فقط فيما يتعلق بالاقتصاد، وإنما ليتجاوز ذلك عبر العديد من الأبعاد الأخرى، والتي تتراوح بين الأمن والمجتمع والسياسة، مما يساهم في تعضيد الصمود العالمي في مواجهة الأزمات، سواء الناجمة عن صراعات النفوذ والسيطرة، أو حتى المترتبة على ما قد يطرأ من مستجدات أخرى. ارتباط الأقاليم، ليس بالأمر الجديد، فاستقرار أوروبا لعقود ارتبط بقوة أمريكا واستقرارها، والعكس صحيح، إلا أن الأمر بات في حاجة إلى مزيد من التوسع، خاصة مع سقوط الرهان على واشنطن، في ضوء المستجدات الأخير، وبالتالي أصبح هناك إدراكا عاما بأن الأوضاع في شرق الكوكب، ستلقي بتداعياتها، أيا كانت، على غربه، وهو الأمر الذي استلهمته الدولة المصرية، ووضعت بذوره منذ عقد كامل، عندما قررت التخلي عن التحالفات الضيقة، نحو شراكات أوسع وأرحب، تسمح بمساحة من الاختلاف، ولكنها في الوقت نفسه، تعزز المشتركات، بحيث تطغى على الرؤى المتعارضة. النهج الذي تبنته الدولة المصرية ببناء شراكات شرقا وغربا، دفع إلى تعميق الرؤية الدولية، بضرورة تحقيق الاستقرار في الشرق، حتى يتفادى الغرب تداعيات الفوضى، وهو ما بدا مبكرا في ملف الحرب على الإرهاب، عندما شكلت التنظيمات المتطرفة خطرا داهما على أوروبا، لتستلهم القوى الرئيسية في القارة النهج المصري القائم على الذراع الأمني في ملاحقة العناصر الإرهابية، جنبا إلى جنب مع المواجهة الفكرية، عبر تعديل الخطاب الديني وإصلاحه، وهو ما يبدو في النموذج الذي تبنته فرنسا في مواجهة الأفكار المتطرفة، عبر حظر استيراد الأئمة والخطباء من الخارج، حفاظا على مبادئ وتقاليد الجمهورية. وفي الواقع، فإن مقاربة الدولة المصرية في الملف الفلسطيني، كجزء من فلسفة أوسع، ترى أن الاستقرار الإقليمي لا يتحقق إلا بمنظور إنساني وأخلاقي، يعيد للمنطقة قدرتها على إنتاج الأمن، بينما تضمن في الوقت نفسه حماية المناطق الأخرى البعيدة جغرافيا من تداعيات استمرار الصراع، سواء فيما يتعلق بالهجرة أو اللجوء، أو حتى الأثر السلبي المباشر على سلاسل الإمداد وحركة التجارة العالمية، بما يحمله من خسائر اقتصادية فادحة، في أطار ما يمكننا تسميته ب"نظرية الجسور" التي من شأنها ربط الأقاليم ببعضها. وإلى جانب التداعيات المباشرة ل"نظرية الجسور"، نجد أن ثمة أبعادا أخرى يمكننا أن نأخذها في الاعتبار، وتتجلى في جوهرها في حاجة الأقاليم إلى إيجاد ظهير دولي، يمكن الاعتماد عليه في حشد الشرعية العالمية، في مواجهة التحديات التي تواجهها، وهو ما يبدو في المشهد الأوروبي، خاصة بعد ما أصابها من خذلان أمريكي، على غرار الموقف الأمريكي من أزمة أوكرانيا، والذي يبدو صادما، في ضوء ما يحمله من انقلاب صريح على المواقف التاريخية التي تتبناها واشنطن تجاه الخصم التاريخي (روسيا) وانحيازها الدائم للغرب الأوروبي. "نظرية الجسور" لا تمثل مجرد مسار دبلوماسي مرن، بل هو تصور استراتيجي قائم على فكرة الربط العضوي بين الأقاليم المختلفة، عبر فاعلين إقليميين قادرين على بناء نقاط تلاقٍ بين المصالح المتضادة، دون الانخراط في محاور صراعية، وتقوم على 3 مسارات متوازية، أولها، الشراكة متعددة الاتجاهات بدلًا من التحالفات المغلقة؛ بينما يعتمد المسار الثاني على انتاج الأمن الإقليمي ذاتيا، بما ينعكس على الاستقرار الدولي، في حين يبقى التوازن الأخلاقي كأداة لإعادة صياغة الشرعية العالمية، مسارا ثالثا، بحيث لا تكون مقتصرة على المعايير الغربية التقليدية. وفي هذا السياق، تلعب مصر دور "الجسر" الذي يربط بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، عبر نهج يؤمن بالاختلاف لكنه يعزز المشتركات، وهو ما يجعل استقرار الشرق الأوسط، في ظل هذه الرؤية، ليس مسألة إقليمية فحسب، بل ضرورة هيكلية لنظام دولي يسعى إلى تجديد نفسه، والبحث عن مراكز توازن جديدة أكثر شمولًا. وهنا يمكننا القول بأن النهج الذي أرسته الدولة المصرية، والقائم على توسيع دوائر الشراكة وتجاوز التحالفات الضيقة، لم يكن مجرد تحول في السياسة الخارجية، بقدر ما أصبح نمطًا جديدًا من التفكير الاستراتيجي، أعاد تعريف العلاقة بين الشرق والغرب، ليس على أساس الهيمنة أو التبعية، وإنما على قاعدة التلاقي حول المصالح المشتركة، دون التفريط في المبادئ، وهو ما ساهم في خلق حالة من الارتباط العضوي بين الأقاليم، بحيث لم يعد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط شأناً إقليميًا فحسب، بل بات ضرورة عالمية، ترتبط بها مصالح العالم بأسره، وأمنه الجماعي، واستدامة نظامه الدولي، وهو ما يمثل إعادة هيكلة للبنية العالمية للنظام الدولي، في إطار محاولات تحديثه، ليكون قادرا على مجابهة التحديات، فلم تعد الرهانات على القوى التقليدية كافية، لتبرز الحاجة إلى نموذج بديل، يحمل من التاريخ شرعيته، ومن الحاضر منطقه، ومن الواقع السياسي تجربته؛ نموذجٍ تجسده مصر، كقوة استقرار، ووسيط مبدأ، وركيزة أخلاقية لنظام دولي في طور التشكل.