في عالمٍ تتهادى فيه الأسماء على الأرصفة كالأزياء الموسمية، تلمع ألقاب هنا وتخفت هناك، تتراقص الأوسمة على صدور البعض وتُغرس في سير البعض الآخر كما تُغرس المسامير في نعوش الخشب، يحق لنا أن نسأل: من يصنع المجد حقًا؟ أهي الألقاب، أم أولئك الذين يُلبسونها معنى؟ ليس كل "دكتور" طبيبًا يُداوي، ولا كل "باشا" قائدًا يُهتدى به، ولا كل "فنان" صاحب ريشة أو صوت أو حضور، كثيرون يلبسون الألقاب كما يُلبَس القناع في مسرح الحياة، لكن القليل من البشر هم من يجعلون للألقاب وزنًا، وللكلمات ظلًا، وللمعاني جذورًا لا تذروها رياح الزيف. خذ مثلاً لقب "الزعيم"، كم زعيمًا مرّ علينا في دفاتر التاريخ بالعالم، لكنه ظل حبرًا على ورق، لا يذكره الناس إلا في قوائم الخيبات! بينما رجل ك"سعد زغلول" لم يكن يحتاج إلى لقب يسبق اسمه، لأن اسمه وحده كان يكفي ليوقظ وطنًا من سباته. الألقاب مثل النقود القديمة: إن لم تُنفق في مواقف تستحقها، فلن تساوي شيئًا، مهما زُيّنت بالذهب، والأسماء مهما علت لا ترتفع إلا حين تعلو بها الأفعال. الناس تصنع المجد حين تقف عارية من كل مسمى، وتواجه الحياة بضمير حيّ، وموقف شجاع، ويد لا ترتجف حين يُطلب منها أن تكتب كلمة حق، أو ترفع ظلمًا، أو تنقذ ما يمكن إنقاذه، هؤلاء الناس هم الذين ينفخون الروح في الألقاب، فيصبح لقب "معلّم" وسامًا، و"أم" تاجًا، و"شهيد" منزلة من منازل الخلود. في مصر حيث التاريخ لا يُكتب، بل يُنقش لم يكن المجد يوماً حكراً على من نال لقباً، المجد كان دومًا حليف من عاش نزيهًا، ومات واقفًا، وترك خلفه فعلاً لا وصفًا، وسيرة لا سيرة ذاتية. وها نحن نعيش في مجتمع يُعطى فيه اللقب قبل الفعل، ويُصفّق فيه للعنوان قبل المحتوى، فاختلط الحابل بالنابل، وصار اللقب غاية لا وسيلة، لكن الحقيقة تبقى رغم كل الضجيج: أن القيمة لا تأتي من كلمة تُقال أمام الاسم، بل من أثر يُقال بعده. ليس كل من يُدعى "الأستاذ" يُعلّم، وليس كل من يُقال له "اللواء" يحمي، ولا كل من يُلقب ب"الإعلامي" ينير، بعضهم يزيد العتمة، وبعضهم يُضيء الطريق دون لقب، فقط باسمه، فقط بفعله، فقط بصدقه. فلتكن الألقاب زينة، لا ستاراً، دعها تتبع الفعل، لا تسبقه، ولا تنسَ أبدًا: أن المجد لا يسكن فوق الياقات، بل في الأعماق.