لا شك أن الإصلاح في فلسطين، يمثل خطوة فارقة وهامة، في ضوء المستجدات التي تشهدها الساحة الإقليمية، وفي القلب منها قضيتها المركزية، والتي تشهد لحظة مفصلية، بين أحلام الإجهاز عليها مقابل تطلعات الانتصار للشرعية الدولية، والقائمة أساسا على حل الدولتين، وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، عاصمتها القدسالشرقية، حيث تبقى الخطوات التي تتخذها السلطة بمثابة إجراء جاد وحقيقي في سبيل سد الثغرات التي يسعى المعسكر الآخر إلى فتحها، فيما يتعلق بالأوضاع في الداخل، وهو الأمر الذي انطلق مع إعلان الرئيس محمود عباس قراره بإصدار عفو عام على جميع المفصولين من حركة فتح، خلال كلمته أمام القمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة في مارس الماضي، وهو القرار الذي يبدو مجرد بداية، لسلسلة أخرى من الإجراءات، منها تعيين نائبا للرئيس وربما خطوات أخرى منتظرة. والحديث عن عملية إصلاحية في فلسطين، ليست بالسلسة إطلاقا، لارتباطها في واقع الأمر بجوهر القضية المركزية في الإقليم، وهو ما يخلق عدة دوائر، انطلقت من السلطة، بينما تنتظر أطرافا أخرى، ليس فقط في الداخل الفلسطيني، وإنما تحمل أبعادا أخرى ترتبط في الأساس بأطراف إقليمية فاعلة تبقى في حاجة ملحة إلى إبراز قدر من المرونة، سواء فيما يتعلق بالعلاقة مع أطراف المعادلة الفلسطينية، في الداخل، أو ما يرتبط بالعلاقات مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، خاصة وأن القضية برمتها ارتبطت في الأساس بسياسة المحاور، والتي ساهمت بقدر أو بآخر في زعزعة ما تحظى به القضية الأم من مركزية لفترات طويلة، جراء ما مثلته تلك السياسة من تهديدات وتدخلات ومحاولات لزعزعة استقرار القوى الأخرى التي تتبنى نهجا مختلفا عنها، وهو ما تجلى في أبهى صوره في العقد الماضي إبان "الربيع العربي". قرارات عباس في واقع الأمر مهمة، خاصة وأنها تأتي من قبل رأس السلطة، ولكن يبقى الأهم في كونها اعترافا ضمنيا بالحاجة إلى الإصلاح، الذي يبدأ من الدائرة الضيقة، انطلاقا من منظمة التحرير نفسها، عبر استيعاب المنافسين، بهدف توحيد السلطة، وهو ما يعكس استعدادا صريحا للانطلاق نحو دائرة أوسع، عبر احتواء الفصائل الأخرى، وهو ما يتطلب قبولا إيجابيا من قبل الأطراف الأخرى في المعادلة الفلسطينية، ومنها إلى ما يرتبط بها من قوى إقليمية أخرى، تبقى هي الأخرى في حاجة إلى العمل مع القوى الأخرى، سواء على النطاق الإقليمي أو الدولي، حتى المختلفة معها، في سبيل الوصول إلى حل شامل يضمن الوصول في نهاية المطاف الانتصار لحقوق الفلسطينيين العادلة. ارتباط الإصلاح في الداخل الفلسطيني، انطلاقا من السلطة، بالحالة الإقليمية الجمعية، يبدو في جوهره صورة أخرى لما أسميته في مقال سابق ب"المركزية المتبادلة"، بين القضية ومحيطها الجغرافي، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد التي تبادلت فيها الأدوار، بين حزمة مصالحات إقليمية خلال السنوات الماضية، وما ارتبط بها من صمود في مواجهة أحد أبرز المشاهد العدوانية وأطولها أمدا زمنيا وامتدادا جغرافيا، في قطاع غزة، منذ أكتوبر 2023، وما تلاه من سلسلة اعتداءات ممتدة بين لبنان وسوريا واليمن، وصولا إلى مناوشات مع إيران، وضعت الإقليم على حافة الهاوية. بينما تعد فرصة مواصلة الإصلاح في الداخل الفلسطيني، وامتدادها، لتشمل الضفة والقطاع، ليصبحا تحت مظلة واحدة، بمثابة انتعاشه جديدة للإقليم، في ضوء ما قد تسفر عنه من مواقف موحدة وأكثر صمودا، خاصة مع حالة الزخم التي تحظى بها القضية على المستوى الدولي، في ضوء النجاح المنقطع النظير الذي حققه الجانب العربي، في الأشهر الماضية، وفي القلب منه مصر، في اختراق المعسكر الموالي لإسرائيل، وقدرتها على استقطاب قطاع كبير منها، باعترافات متواترة بالدولة الفلسطينية، وإدانات للسلوك الإسرائيلي المتطرف، ناهيك عن وجود خلافات جذرية بين الإدارة الأمريكية الحالية، وحكومة بنيامين نتنياهو، وإن توارت خلف صورة خادعة تسعى الدولة العبرية لتصديرها، تجلت في جزء كبير منها في الضغوط الأمريكية على تل أبيب للرضوخ إلى وقف إطلاق النار في المرة الأولى، بينما تبدو ممتدة في مشاهد أخرى، منها حديث الرئيس دونالد ترامب الأخير حول ضرورة دخول المساعدات لسكان غزة، ناهيك عن المفاوضات الجارية مع إيران. انطلاق الإصلاح في فلسطين تزامنا مع القمة العربية الطارئة في القاهرة، والتي عقدت خصيصا لمناقشة مسألة إعادة إعمار غزة، في ذاتها تمثل رمزية مكانية، باعتبارها جاءت من قلب مصر التي تبقى أهم المدافعين عن القضية، بينما تحمل في الوقت نفسه رمزية ظرفية، في ضوء موضوع القمة الذي دار حول غزة وإعادة إعمارها، وهو ما يمثل في ذاته محاولة للانتقال بين دوائر الإصلاح، في إطار مبادرة ضمنية لتوحيد الصف من الضفة إلى القطاع، في قلب قمة إقليمية، ذات طبيعة دولية، مما يحمل رسالة عميقة، تدعو إلى الالتفات والاهتمام. وهنا يمكننا القول بأن الإصلاح في فلسطين، أولوية قصوى، وليست رفاهية سياسية، في ضوء ارتباطها بالقضية والإقليم بأسره، وبالتالي تبقى الكرة في ملعب الأطراف الأخرى، التي تبقى أمام اختيار البقاء في دائرتها الضيقة، أو الانتقال نحو مرحلة أخرى، تدور في الأساس على ضرورة الانتصار للقضية.