تبدو المكاسب الكبيرة التي تحققت لصالح القضية الفلسطينية في الأشهر الماضية، والتي حملت في أحد مساراتها جانبا إيجابيا يتجسد في الانتصارات القضائية أمام محكمة العدل الدولية، والدبلوماسية والتي تجلت في الاعترافات المتواترة بدولة فلسطين، وآخر سلبيا يبدو في الصفعات المتتالية التي تلقاها الاحتلال وحكومته سواء فيما يتعلق بفقدان التعاطف الدولي خاصة من المعسكر الموالي له، بالإضافة إلى ملاحقة إدارته قضائيا عبر المحكمة الجنائية الدولية التي طالبت باستصدار أمر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بمثابة مؤشرا مهما على حقيقة مفادها أن الحاجة باتت ملحة لتنويع ليس فقط أدوات المقاومة، بين الأبعاد الدبلوماسية والتنموية إلى جانب الطبيعة الثورية التي دائما ما تطغي على الشعوب المحتلة، بل وأيضا تنويع دوائرها، في إطار جغرافي في ضوء الحاجة إلى تعزيز الشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين. ولعل الحديث عن التغييرات التي طرأت على مفهوم المقاومة وأدواتها المتعددة، فقد سبق وان تناولتها في مقالات سابقة، ولكن يبقى من المهم الإشارة في هذه السطور على ما يمكننا تسميته "دوائر المقاومة"، وهو الأمر الذي توارى خلال العقود الماضية وراء العديد من المعطيات، منها أحادية الرعاية الدولية للقضية واقتصارها على القوى الدولية الوحيدة المهيمنة على النظام العالمي، وهو ما ساهم في غياب التوازن جراء انحيازات الوسيط لصالح طرف على حساب الأطراف الأخرى، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار الاقليمي والضعف الذي لاحق القوى الحليفة لفلسطين جراء أوضاع اقتصادية صعبة تارة أو انقسامات وصلت إلى حد الأزمات الكبرى التي وصلت إلى ذروتها خلال العقد الماضي، وهو ما ساهم في تعزيز سياسات الاحتلال القائمة على الاستيطان وبالتالي تراجع القضية في أجندة الإقليم لصالح الأوضاع الأمنية في الداخل. "دوائر" المقاومة، تمثل الظهير الداعم للقضية الفلسطينية، في إطار جغرافي، ينطلق من داخل الأراضي المحتلة نفسها، لتنطلق منها إلى النطاقين الإقليمي والدولي، ما يساهم في تعزيز حالة الزخم التي تحظى بها فلسطين، وهو الأمر الذي ربما فرضته المستجدات الدولية جراء صعود قوى جديدة يمكنها القيام بدور ملموس، على عكس الوضع القائم منذ ثلاثة عقود، بينما تجلت الحاجة إليها خلال الأشهر الماضية مع اندلاع العدوان على غزة، في ضوء الدور الكبير الذي لعبته العديد من القوى الإقليمية ليس فقط في توحيد مواقف القوى الرئيسية بالمنطقة، وإنما في استقطاب قوى أخرى، من مناطق جغرافية بعيدة نسبيا عن أرض الصراع، أو على الأقل تحييدها نسبيا، ومنها دولا محسوبة على المعسكر الموالي للدولة العبرية نفسها. فلو نظرنا إلى نقطة المركز التي تنطلق منها المقاومة، نجد أنها تأتي من تلك الرقعة الجغرافية التي يقع فيها الصراع منذ عقود طويلة من الزمن، في إطار الداخل الفلسطيني نفسه، وهو ما يتجسد في كافة أطراف المعادلة الفلسطينية، سواء السلطة الشرعية والمتمثلة في منظمة التحرير والتي تعد الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أو الفصائل الأخرى، والتي ينبغي أن تعمل في إطار مكمل لها لخدمة القضية بعيدا عن المصالح الشخصية الضيقة، وبالتالي تبقى الحاجة إلى جبهة داخلية صلبة، يمكن البناء عليها لتعزيز الدوائر الأخرى، والتي سيعتمد دورها في دعم القضية إلى حد كبير على إرادة الفلسطينيين أنفسهم، ومدى رغبتهم في الانتصار لقضيتهم العادلة. الدائرة الثانية تتمثل في الجوار الإقليمي، والذي يشارك الفلسطينيين هويتهم العربية والإسلامية، وهي الدائرة التي تمكنت من تقديم دعم كبير للقضية من رحم الأزمة التي تشهدها غزة منذ 10 أشهر، وهنا لابد أن نلفت للدور المصري الكبير منذ الدعوة إلى قمة القاهرة للسلام في اكتوبر الماضي، بعد أقل من أسبوعين من اندلاع العدوان على غزة، لتحقيق توافقات دولية حول ثوابت القضية وعلى رأسها حل الدولتين وأحقية الفلسطينيين بتأسيس دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، ناهيك عن نشاطها الدبلوماسي الكبير برفقة شركائها الإقليميين لانتزاع اعترافات بدولة فلسطين من قبل دول أوروبية محسوبة على المعسكر الموالي للاحتلال، وهو ما يمثل طفرة مهمة في تاريخ القضية. بينما يبقى النطاق الإقليمي الأوسع نطاقا دائرة ثالثة، لا يمكن تجاوزها في خدمة القضية المركزية بمنطقة الشرق الأوسط، شريطة العمل في إطار تكاملي، وليس تنافسي مع القوى الأخرى، وهو الأمر الذي باتت البيئة الاقليمية مهيأة له مع حزمة المصالحات التي شهدتها المنطقة في السنوات الماضية. في حين تبقى الأقاليم المتقاطعة جغرافيا مع منطقة الشرق الأوسط أحد أهم دوائر المقاومة، وهو ما يتجلى في أفريقيا، حيث يبقى دخول دولة جنوب أفريقيا على خط الصراع في غزة عبر دعوتها أمام محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال وما تحقق خلالها من انتصار قضائي، بمثابة خطوة هامة نحو إحياء الدور التاريخي للقارة في دعم فلسطين، حال البناء عليه، حيث سيساهم بصورة كبيرة في تعزيز الشرعية الدولية في مواجهة الغرب الموالي للاحتلال، في لحظة تبدو حاسمة في تاريخ القضية. وأما على المستوى الدولي الواسع، فيبقى دائرة أخرى، في ضوء الزخم الناجم عن صعود قوى مؤثرة استطاعت تقديم نفسها في إطار المنافسة الدولية مع الولاياتالمتحدة على عرش النظام الدولي، وبالتالي فتسعى لملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكي في المنطقة بأسرها، وهو ما يبدو في تصاعد دور الصين وروسيا خلال العديد من مراحل العدوان على قطاع غزة من خلال الدعوات المتواترة لوقف إطلاق النار، والتي وضعت واشنطن في حرج بالغ، جراء اضطرارها لاستخدام الفيتو أكثر من مرة لحماية الحليف الإسرائيلي، وبالتالي انكشاف زيّف الادعاءات التي تبناها الغرب بقيادة أمريكا حول حقوق الإنسان خاصة مع الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها سكان غزة أدت إلى مقتل الاف المدنيين دون حراك من القوى الكبرى. وهنا يمكننا القول بأن المقاومة لم تعد تحمل فقط أدوات متنوعة وإنما العديد من الدوائر الجغرافية التي من شأنها تحقيق المزيد من الزخم للقضية الفلسطينية خلال المرحلة المقبلة، ولكن يبقى تعزيز الدائرة الأولى والمتمثلة في جبهة الداخل بمثابة الخطوة الأهم التي يمكن البناء عليها في المستقبل، من أجل حشد أكبر قدر ممكن من الدعم للقضية في مواجهة الاحتلال والمعسكر الموالي له.