لأول مرة ومنذ ما يقرب من 58 عاما على قمة العرب الشهيرة في الخرطوم والتي عرفت بقمة "اللاءات الثلاثة"، تأتي القمة العربية الاستثنائية – قمة رمضان- منذ أيام قليلة لتعيد السيرة العربية والموقف العربي الموحد من المشروع الأمريكي الإسرائيلي رغم الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة والتحديات التي يواجهها العالم العربي والنظام الإقليمي برمته. وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد هزمت إسرائيل وبالدعم الأمريكي 3 دول عربية واحتلت أراضي عربية في سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية ثم جنوبلبنان في عام 67، وانتظر قادتها إعلان تسليم واستسلام العرب وخاصة الزعيم جمال عبد الناصر، لكن جاءت الصدمة والصفعة وعقد العرب القمة العربية في الخرطوم أو قمة اللاءات الثلاثة في 29 أغسطس 1967 على خلفية الهزيمة أو ما عرف بالنكسة. وقد عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاثة، حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاثة: لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه. وشارك في القمة كافة الزعماء العرب ماعدا سوريا. وجاءت قمة الخرطوم نقطة انطلاق للوحدة والموقف الصلب تجاه إسرائيل حتى الانتصار في حرب أكتوبر عام 1973. ودعا القرار إلى استمرار حالة العداء مع إسرائيل، وإنهاء المقاطعة النفطية العربية، ووضع حد للحرب الأهلية القائمة في شمال اليمن، والدعم الاقتصادي لمصر والأردن. الموقف الحالي قد لا يصل إلى حد التطابق، لكن هناك تشابهات كثيرة لعل أبرزها الغطرسة الإسرائيلية ولغة القوة والحرب التي يتحدث بها قادتها، وخاصة رئيس الوزراء نيتنياهو، وإعلانه أن إسرائيل استطاعت تغيير خريطة الشرق الأوسط بعد اقتحام القوات الإسرائيلية لعمق الأراضي السورية والوقوف فوق جبل الشيخ، وبعد أن حققت ما أرادات في حربها ضد حزب الله في لبنان وضد حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة استنادا على الدعم الأمريكي اللامحدود سياسيا وعسكريا، لاسيما عقب تولي الرئيس الجديد دونالد ترامب الذي وافق على دعم تل أبيب بكافة صفقات الأسلحة، علاوة على الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة في السودان واليمن وليبيا. وهو ما دفع نيتيناهو ومعه الرئيس الأمريكي ترامب الإعلان ومن جانب واحد رسم خريطة جديدة للمنطقة بمشروع تهجير 2.5 مليون فلسطيني من قطاع غزة لاعادة الاعمار وتهديد حماس بالإبادة في حالة عدم الإفراج عن جميع الاسرى والمحتجزين. ورغم الليل الحالك السواد في المنطقة وركام اليأس وجبال الأحزان يأتي الموقف المصري – كالعادة التاريخية- بقعة الضوء ونبتة الأمل في إمكانية توحيد الصف العربي، والموقف القوى ضد المخططات الاستعمارية الجديدة للمنطقة، والخلاص نهائيا من القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني للمرة الثالثة من أراضيه. كان موقف مصر واضحا وقويا منذ البداية ودعت القاهرة إلى عقد قمة عربية استثنائية برزت فيها لاءات القاهرة الجديدة وهي: لا لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، واعمار غزة على حساب القضية الفلسطينية ومصر والأردن، و لا للعدوان وحرب الإبادة والتجويع والحصار، ولا لاستمرار احتلال الأراضي العربية ومحاولات تصفية القضية المركزية للعرب. واعتماد الخطة المقدمة من مصر - بالتنسيق الكامل مع دولة فلسطين والدول العربية، واستنادا إلى الدراسات التي أجُريت من قبل البنك الدولي والصندوق الإنمائي للأمم المتحدة - بشأن التعافي المبكر وإعادة إعمار غزة باعتبارها خطة عربية جامعة، والعمل على تقديم كافة أنواع الدعم المالي والمادي والسياسي لتنفيذها، وكذلك حث المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية على سرعة تقديم الدعم اللازم للخطة، والتأكيد على أن كافة هذه الجهود تسير بالتوازي مع تدشين مسار سياسي وأفُق للحل الدائم والعادل بهدف تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته والعيش في سلام وأمان. وعقد مؤتمر دولي للإعمار في القاهرة خلال الشهر الحالي ليكون منصة لجمع التعهدات المالية وضمان استدامة الجهود الرامية إلى إعادة بناء ما دمره العدوان، ودعوة القمة المجتمع الدولي إلى تقديم كل أشكال الدعم المادي والمالي للخطة المصرية باعتبارها الإطار الأكثر شمولية لإعادة إعمار القطاع، وتشكيل لجنة مستقلة تتولى إدارة شؤون قطاع غزة خلال مرحلة انتقالية تمتد لستة أشهر على أن تتألف من شخصيات تكنوقراط مستقلين تحت مظلة الحكومة الفلسطينية. وترافق هذه الترتيبات خطوات أمنية تتضمن تدريب عناصر من الشرطة الفلسطينية في كل من مصر والأردن بهدف تولي مسؤولية الأمن في القطاع، تمهيداً لعودة السلطة الفلسطينية إليه مع إمكانية نشر قوات حفظ سلام دولية في الأراضي الفلسطينية عبر مجلس الأمن، كجزء من الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار ومنع تكرار المواجهات العسكرية في المستقبل والتعامل مع مسألة سلاح الفصائل الفلسطينية من خلال "أفق سياسي واضح" يضمن معالجة هذا الملف وفق ترتيبات مدروسة تضمن الاستقرار في القطاع. القمة أكدت على أن خيار العرب الاستراتيجي هو تحقيق السلام العادل والشامل الذي يلُبي جميع حقوق الشعب الفلسطيني، وخصوصا حقه في الحرية والدولة المستقلة ذات السيادة على ترابه الوطني على أساس حل الدولتين، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين ويضمن الأمن لجميع شعوب ودول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، استنادا لمبادرة السلام العربية للعام 2002 التي تعبر بثبات ووضوح التزام الدول العربية حل جميع أسباب النزاع والصراعات في المنطقة لإحلال السلام والتعايش المشترك، وإقامة علاقات طبيعية قائمة على التعاون بين جميع دولها. والتأكيد على رفضنا الدائم لجميع أشكال العنف والتطرف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار وتتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية والقوانين الدولية. قرارات القمة وافقت عليها كافة الدول العربية وأيدتها. فالكل يدرك أن القمة الأخيرة هي قمة النجاة والإنقاذ لقضية العرب التاريخية، وإنقاذ النظام العربي ومحاولة إطفاء النيران المشتعلة فيه. ما تطرحه واشنطن ترامب هو مشروع استثماري وليس مشروع إعمار، على غرار ما فعلته الولاياتالمتحدة مع دول أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية بما عرف بمبادرة مشروع مارشال عام 1948، بعد التدمير والخراب والفقر الذي لحق بدول أوروبا، وقدمت أمريكا ما يقدر 22 مليار على مدار 5 سنوات بما يعادل 240 مليار دولار حاليا. وكان ذلك الدعم يشكل جزءاً كبيراً من حجم الاقتصاد الأمريكي، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة حينها 258 ملياراً من الدولارات. كنا ننتظر من ترامب مشروع إعمار يرتبط باسمه، وليس مشروعا استثماريا يهدد شعبا بأكمله ويقتلعه من أراضيه. كنا نتمنى أن يوافق ترامب وتابعه نينتياهو على ماجاء في قرارات القمة العربية. الأيام المقبلة ستكشف عن مدى صلابة الموقف العربي وإرداته في خياره للسلام ورفضة للتهجير وتصفية القضية والاصطفاف خلف المشروع المصري، في مواجهة خيار الحرب والتهجير والتصفية.