يواجه الشعب المصرى هذه الآونة تحدياً صعباً وتاريخياً مع قرب حلول أول انتخابات فعلية لرئيس جمهورية فى الثالث والعشرين من الشهر الجارى بصبغة مدنية على الأرجح. فلقد ظلًت مصر قابعة تحت وطأة حكم العسكر لقرابة ستة عقود متتابعة مثلت أنظمة سياسية ثلاثة للحكم، سادت فيها الديكتاتورية وغاب عنها مبدأ تداول السلطة؛ حتى كُسرت فى عصر مبارك بعد أن أزكمت رائحته الأنوف وطفح فى عهده الكيل. فالمشهد الحالى يبدو ضبابياً على جميع الأصعدة، ويعتريه كثير من الالتباس فى ظل الصراع الدائر بين مختلف القوى الوطنية فى مواجهة التيارات الإسلامية البارزة على الساحة، وكذا تخبط المجلس العسكرى وإخفاقه فى إدارة الفترة الانتقالية؛ مما يثير قلقاً شديداً فى الشارع، وقد يعرقل حلم الوصول إلى دولة ديمقراطية وشيكة للمرة الأولى فى تاريخ مصر الحديث. وهذا الوضع المُضطرب والمتأزم يضع الجميع أمام إشكالية كبيرة؛ تتمحور حول عملية التحول الديمقراطى الذى يقبع بالأساس تحت عباءة الإرادة الشعبية. والذى من شأنه طرح عدة تساؤلات تحتاج بشدة إجابات حاسمة:- أولاً: كيف للناخب أن يحسم أمره فى اختيار من يمثله لقيادة شئون البلاد؛ وسط كل هذا الزخم من الصراعات والصفقات والغموض والترهل السياسى الحاد؟! ثانياً: كيف له أن يختار وهو فى الأصل غارق فى براثن أزماته اليومية – المفتعلة وغير المفتعلة - ما بين مطرقة الانفلات الأمنى وسندان أعبائه الاقتصادية؟! ثالثاً: كيف له فك الرموز المبهمة بعدما تخلت كثير من وسائل الإعلام بشتى وسائطها عن موضوعيتها، وتراجعت عن إبراز دورها الحقيقى فى تبصير الرأى العام وإظهار الحقيقة؛ بل وأبى بعضها إلا أن يكون بوقاً يخدم فلول النظام السابق على حساب دم الثوار؟! رابعاً: كيف يمكن كذلك لمواطن عادى – يجهل قواعد اللعبة - أن يفاضل بين شخوص من تبقوا فى سباق الرئاسة؛ مع وجود هذا الكم من الشبهات والإشاعات التى تحوم حول بعضهم، والتى تطلق كل يوم وليلة؟! إضافة إلى سطحية برامجهم الإنتخابية وتطابق أكثرها إلى حد كبير، وقلة فرص قابليتها للتحقيق مستقبلاً. لذا، فرجل الشارع البسيط رغم كونه الرقم الأهم فى المعادلة؛ إلا أنه يقف صامتاً حائراً حابساً أنفاسه ينتظر من يُخلصه! وله العذر فى ذلك؛ فهو لا يعلم ما يدور فى الكواليس داخل الغرف المغلقة من خلف ظهره. فلازال اللاهثون خلف الكراسى ينظرون إلى البسطاء - وهم الأغلبية الحقيقية - على أنهم ليسوا إلا كُتلة تصويتية عريضة تُساق كالقطيع نحو صناديق الاقتراع لتؤدى مهمة معدًة لها سلفاً، ثم تهرول ثانية إلى أماكنها تنتظر دعوتها من جديد فى المرة القادمة؛ لعباً على أوتار عاطفتهم المشدودة وجهلهم السياسى الناتج عن طول فترة القهر والتهميش زمن المخلوع. ولعل ما حدث فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة لخير شاهد على هذا. وساعدهم فى ذلك أيضاً؛ الارتفاع المذهل لمعدلات الأمية بين السكان. إذ لا يستطيع أمى السير بين دهاليز السياسة المترامية أو المرور خلال سراديبها القاحلة. لذلك فهو دائماً فى حاجة إلى من ينوب عنه فى رسم طريقه وتحديد وجهته. وهذا ينتج عنه خطورة شديدة ويزيد من حالات الاستقطاب السائدة بين كافة الأطراف. غير أن الديمقراطية بهذه الصورة القاتمة؛ قد تقودنا إلى الاعتقاد بأنها أصبحت عبئاً ثقيلاً نبتغى التخلص منه! بل ربما توحى – عبثا - بأننا لم نستعد بعد لممارستها مثلما كان يدًعى النظام البائد كى يستمر فى خداع المصريين وسرقة حقوقهم. ومن ناحية أخرى؛ ما يجرى فى الداخل ليس ببعيد عن الأعين الخارجية الإقليمية والدولية. فمنذ إندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى هذه اللحظة؛ والموقف الراهن يمكث تحت المجهر الأمريكى الإسرائيلى المشترك. ويُمثل هذا نوعاً خطيراً من الضغوط يضاف إلى مجموع العقبات الداخلية المتمركزة فى طريق الانطلاق صوب الإصلاح. ما أريد أن أذهب إليه؛ هو أننا نسبح الأن فى بحر هائج متلاطم الأمواج؛ بحثاً عن شاطئ الاستقرار الذى تاه وسط ظلمة الليل الحالك. وبعيداً عن الشعارات الجوفاء والتصريحات المثيرة، ونبرات التخوين أحياناً عبر الصحف والشاشات؛ فلا سبيل لبلوغ بر الأمان إلا بالجلوس سوياً حول مائدة وطنية واحدة، والتجرد ولو على الأقل فى هذه المرحلة؛ من التحزب الأعمى والتوجه الأيديولوجى الضيق، ونتوحد جميعاً للنظر فقط إلى المصلحة العليا للوطن والارتقاء بمستقبله. فهل ننجح فى الخروج الآمن من عنق الزجاجة المُحكم؛ لنمزق الثوب القديم ونحيك أخراً يليق بحضارة السبعة آلاف عام؛ أم نُخفق ونعود مرة أخرى إلى المربع صفر؟!