لأنهم زعموا أنك تقعد بالقرب من الجداول والغدران، فإذا ما جفت أو غاصت، استولى عليك الأسى وبقيت صامتا هكذا وحزينا أو ربما توقف قلبك فجأة. بهذه الكلمات بدأ "إبراهيم أصلان" روايته "المالك الحزين" وبجفاف هذه الجداول والغدران توقف قلب "إبراهيم أصلان" وانتهت حياته، معلنا برحيله احتجاجه وحزنه العميق، على شطط التصريحات التى أعلنتها بعض الأحزاب ذات المرجعية الدينية من إدانة واضحة للمثقفين والمبدعين المصريين، وعلى من ينصبون أنفسهم على وعى وإيمان الشعب المصرى كله، ويريدون السيطرة على حياتنا، ويستعدون للانقضاض على أيامنا المقبلة، عن طريق إرهابنا بآيات عن الجحيم، وحساب الملكين، الذى ينتظر الجميع، مدعين القدسية لأنفسهم ولأفكارهم، وأن كل ما عاداهم هو كافر وداعر، وإيمانه غير مكتمل، مستغلين الأمية والفقر، فى استخدام مظلة الدين فى ارتكاب أبشع الجرائم الأخلاقية وفى اغتيال أنقى وأطهر وأرقى من فينا. فما كان بوسع هذا المبدع (الاستثناء) تحمل صدمة أخرى، شبيهة إلى حد كبير بالأزمة المفتعلة لرواية (وليمة لأعشاب البحر) عام (2000)، وكان "إبراهيم أصلان" أحد أطراف هذه الأزمة دون أن يرغب، لأنه كان يرأس سلسة آفاق عربية التى أصدرت هذه الرواية للمؤلف السورى "حيدر حيدر" فآثر "أصلان" ساعتها تقديم استقالته والانسحاب بهدوء، معلنا بذلك رفضه واعتراضه على النظام بأكمله، فعندما تكون المؤسسة برمتها فاسدة فلا يمكنك أن تفعل شيئا حيالها سوى الانسحاب الآمن، بدلا من محاربة طواحين الهواء. ولكن ما يحدث الآن وفى هذا التوقيت تحديدا هو أمر استثنائى ومثير للدهشة فى آن، لأننا قد وصلنا بالفعل إلى شاطئ الحريات، ومضى عام على ثورات الربيع العربى، وبالفعل نحن على أعتاب مستقبل جديد نتنفس فيه الحرية ونستعيد فيه أقلامنا وإبداعنا الذى طالما كبلته نظم ملتوية أردت على مدار ثلاثون عاما مضت، تهميش دور المثقفين، وقتل إبداعهم، وتقليم أظافرهم بكل الطرق الممكنة، فهل ألتقط "أصلان" بوعيه الحاد وفطنته النافذة، بأن من صعدوا إلى الحكم فى هذه الفترة الحرجة التى يمر بها الوطن، أشبه بمن افتعلوا أزمة "وليمة لأعشاب البحر" وأن التغيير بدا من على السطح فقط، ولم يصل إلى العمق كما كان يتوقع –ويتوقع الجميع - وأن الأمل فى الخلاص يزداد تباعدا، وحلم الحرية يتحول إلى سراب، ويتصاعد التطرف الدينى ويحلق عاليا، فيرى "أصلان" ما لا يراه أحد، وهنا يتيقن أن هذه الأنظمة لن تطعم أبطال رواياته خبزا، ولا سوف تمنحهم الحرية - (ونستطيع أن نقول أن أبطال أصلان هم البسطاء من الشعب المصرى)- فيصبح الموت بالنسبة "لأصلان" ولكل مبدع يمتلك قلب (كأفئدة الطير) هو آلة التغيير الوحيدة، فالموت هو القادر، ونحن الراضون، والموت هو الغاضب، ونحن أبناء الصمت، ويصبح "أصلان" شهيدا آخر مات فى (ميدان تحرير) الإبداع، فكم مرة رصد لنا التاريخ أن خيبات الأمل كانت قادرة بفردها أن تجهزعلى حياة كبار مبدعينا ومثقفينا؛ فالشاعر الكبير "صلاح جاهين" مات متأثرًا باكتئابه بعد نكسة (67) وسقوط حلمه فى المشروع القومى إلى الأبد وتوقف عن الغناء أو الحديث عن مهارة الريس الملاح الذى سوف يبنى عالما جديدا فيه (أوبرا)على كل ترعة وفى كل قرية عربية، وكذلك الشاعر الكبير "صلاح عبد الصبور" توقف نبضه، وأمتلأ ظهره بسهام بعضهم ، باتهامه فى وطنيته وإتاحته الفرصة لإسرائيل فى المشاركة فى معرض الكتاب عندما كان يرأس الهيئة العامة للكتاب وقتها ، ولا يمكن أن ينسى التاريخ الكاتب والمفكر الكبير "أحمد بهاء الدين" عندما تعرض لجلطة دماغية مات على إثرها بعد سنوات وذلك بعد قرائته لخبر عن ضبط مؤامرة (التفاحة) وهى قضية تجسس لبلغاريا اتهم فيها عددا من خيرة المثقفين، ولكن المحكمة أخيرا برأتهم، وعلى ما يبدو أن القائمة ممتدة طالما أن هناك هواء مسموما يعبئ المكان. وأخيرا.. ينابيع الدمع التى ندخر ها لك أيها "المبدع الجليل" لا تصلح للبكاء الآن، وإنما تصلح لسقيا الأرض لتبعث الحياة فى شجيرات التنوير والوعى، لتظل أغصانهما تتصاعد مع إبداعك إلى مايشبه الإسراء والمعراج.