سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أحمد المسلمانى يروى ملفات «ما بعد إسرائيل».. «الموساد» الذى يحظى بشهرة كبيرة لم يتوقع ثورة يناير.. أمريكا والعالم فوجئوا بالثورة.. ونمضى إلى «حقبة ما بعد إسرائيل» التى عرفناها أضعف سلطاناً
مضى على الطبعة الأولى من كتابى «ما بعد إسرائيل» قرابة العقد من الزمان ولاتزال رؤيتى عندما رأيت بل أقرب مما رأيت أننا نمضى من «حقبة إسرائيل» إلى «حقبة ما بعد إسرائيل»، حقبة إسرائيل التى عرفناها منذ أكثر من نصف قرن إلى إسرائيل أخرى، أوهن قوة وأضعف سلطانا. نفدت الطبعة الأولى قبل سنوات، وكنت فى كل مرة أنوى إصدار الطبعة الثانية من «ما بعد إسرائيل»، أجد صعوبة فى ترميم المسافة بين توقيت صدور الكتاب وما جرى لاحقا، ذلك أن الحوادث كانت عديدة وكثيفة، وقد خشيت أن يكون مد كل فصل إلى نهايته عملا صعبا ومربكا، ذلك أن الإضافات الجديدة تأتى من قلب السياسة، أما الاجتهادات السابقة فهى من قلب التاريخ، وكنت أتساءل كثيرا كيف يمكن أن أصل فى أمان حديث التاريخ بأحداث السياسة. وبقيت على ذلك طويلا حتى وجدت غايتى فى كتاب وزير الخارجية التركى أحمد داود أوغلو «العمق الاستراتيجى»، حظى كتاب أغلو بالاهتمام والاحترام.. وقد وجدته يشير فى سطور مقدمته إلى المعضلة ذاتها التى واجهتنى، يقول أوغلو: «منذ صدور هذا الكتاب وقعت متغيرات جذرية وتحولات كبيرة.. وقد أضفت لهذا الكتاب فصلا لم يكن موجودا فى الطبعة الأولى، يتناول أهم التطورات التى جرت منذ نشر هذا الكتاب وحتى الوقت الحالى». ولقد وجدتنى ماضيا وراء أوغلو فيما ذهب إليه من حل، فهذا بالضبط ما كنت أحتاج إليه.. فصل جديد منفصل يتناول أهم التطورات التى جرت منذ نشر هذا الكتاب وحتى الوقت الحالى. وهو الفصل الرابع من هذا الكتاب «ربيع العرب وخريف إسرائيل»، كنت أتحدث على شاشة التليفزيون عن رحيل بطل المخابرات المصرى الشهير أحمد الهوان الذى اشتهر باسم «جمعة الشوان»، وبعد حديثى بقليل اتصل بى السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس. أبدى خالد مشعل احتراما لما أطرحه بشأن الصراع العربى الإسرائيلى، ثم تحدث عن الدور السياسى القادم للقاهرة فى تلك المنطقة الخطيرة من العالم. وقد لفت انتباهى فى تلك المحادثة ما قاله بشأن المخابرات المصرية ودورها فى صفقة تبادل الجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط مقابل أكثر من ألف من الفلسطينيين فى سجون إسرائيل، قال لى خالد مشعل: إننى على اتصال دائم بالمخابرات المصرية وأعرف قادتها جيدا، وقد تعاملت مع رجالها فى زمن الرئيس السابق حسنى مبارك وفى زمن الثورة.. لقد تعاملت مع نفس الرجال، ولكنهم لم يكونوا بنفس الروح.. لقد عادت الروح إلى رجال المخابرات المصرية بعد الثورة.. إننا إزاء جهاز جديد وضباط جدد رغم أنهم لم يتغيروا.. إن الروح والكفاءة والاقتدار التى لازمتهم جعلتنى أرى مستوى آخر تماما يدعو للفخر والاعتزاز. يشغل خالد مشعل المنصب الأعلى فى حركة حماس، وأذكر أننى حين زرت غزة فى عام 2010 والتقيت رئيس الوزراء الفلسطينى السابق إسماعيل هنية، تحدثت مع كثيرين فى حماس وأدركت تماما أن القرارات الكبرى فى غزة تأتى من خالد مشعل فى دمشق. جاء الصعود الكبير لحركة حماس على الساحة الدولية بعد فوزها فى الانتخابات الفلسطينية التى جرت فى يناير عام 2006، حيث فاجأت «حماس» نفسها والعالم بالحصول على ضعف ما حصلت عليه حركة فتح. وبعد أن كانت «حماس» تمثل المعارضة الرئيسية لحركة فتح.. أصبحت الحركتان فى السلطة معا.. الرئاسة لفتح والحكومة لحماس. لم يدم ذلك الوضع طويلا، فبعد عام ونصف العام أقال الرئيس محمود عباس حكومة حماس فى يونيو عام 2007. أقالت الرئاسة الحكومة، لكن الحكومة عارضت الرئاسة، وقامت حماس بالسيطرة الكاملة على السلطة فى قطاع غزة. أصبح العنوان الرئيسى للقضية الفلسطينية فى العالم هو الصراع بين فتح وحماس، لا الصراع بين فلسطين وإسرائيل، لم يكن الصراع فى معظم مراحله يتسم بالمسؤولية، بل كان يتجه من سيئ إلى أسوأ، وتسرب الإحباط لدى أنصار الدولة الفلسطينية الذين فوجئوا بأنهم إزاء دولتين فلسطينيتين، واحدة فى غزة تديرها حماس والثانية فى رام الله تديريها فتح! وجدت إسرائيل فى صعود حماس أمرا جيدا.. ثمة حركة يمكن اتهامها بالإرهاب أصبحت تحكم فلسطين الآن، وراحت تل أبيب تروج للإرهاب الفلسطينى وللحكومة المتطرفة التى تقتل الأطفال فى إسرائيل! وفى عام 2008 شنت إسرائيل حربا كارثية على غزة أهانت فيها المبادئ الإنسانية والقوانين الدولية، وهى الحرب التى أسقطت «1400» من الشهداء الفلسطينيين وأحالت قطاع غزة إلى قطاع الموت! كانت حركة حماس تتطور، ولكن أحدا فى إسرائيل لا يريد سماع أخبار جيدة من الطرف الآخر.. إن حركة حماس التى لا تعترف بإسرائيل أصبحت راغبة وجاهزة للاعتراف بإسرائيل شريطة إقامة دولة فلسطينية طبقا لقرارات مجلس الأمن. ويروى «ماريك هالتر» وهو كاتب يهودى فرنسى يكتب فى صحيفة «لو فيجارو» أنه التقى خالد مشعل فى دمشق قبل ساعتين من العدوان الإسرائيلى على غزة، وأن مشعل قال له: «إننى مستعد للاعتراف بإسرائيل والاتفاق معها على دولة فى حدود 1967.. إننا نلجأ إلى القوة للحصول على ذلك، ولكننا إذا حصلنا على ذلك بالسلام فسوف نوافق».وقد عرفت فيما بعد أن خالد مشعل قد أبلغ ذلك الرأى الذى يمثل تحولا كبيرا فى أطروحات حركة حماس لعدد آخر من الشخصيات الدولية. وحين التقيت رئيس الوزراء الروسى السابق يفيجينى بريما كوف فى جزيرة مالطا فى ربيع عام 2010 قال لى إنه التقى خالد مشعل فى دمشق وإنه سمع منه بوضوح أن حركة حماس تقبل بقرار مجلس الأمن «242» وبدولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 مقابل الاعتراف بإسرائيل. إن إسرائيل التى ترفض إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 لا ترغب على وجه العموم فى إقامة علاقات جيدة مع أى طرف، لا الفلسطينيين ولا غيرهم، بل إن الدولة الأهم التى ربطتها اتفاقية سلام مع إسرائيل وجدت نفسها فى وضع العدو الدائم للسياسة الإسرائيلية. وبدأت تتكشف تدريجيا حقائق مفزعة عن خطط إسرائيلية لتقويض الاستقرار فى مصر، سواء عبر دعم فتنة داخلية بين المسلمين والمسيحيين أو عبر دعمها لدول حوض النيل للتضييق المائى على مصر. وقد نشرت الصحف تقارير عن دراسة أعدها سفير إسرائيل السابق فى القاهرة تسيفى مزرائيل حول الصراع على النيل، وفيها تحدث مزرائيل عن اتجاه عدد السكان فى إثيوبيا والكونغو للزيادة على نحو يجعل البلدين أكبر من مصر، ومن ثم احتياجهما إلى كميات مياه أكبر فى السنوات القادمة، وهو ما يجعل مصر فى أزمة وربما يدفعها للحرب. وانتهى مزرائيل فى دراسته إلى ضرورة أن يتم تدويل النزاع على مياه النيل، وأن يدخل العالم فيه قبل أن تعلن مصر قيام الحرب! وهكذا فإن الدبلوماسى الإسرائيلى لا يرى حلا للأزمة التى تتمتع فيها مصر بموقف قانونى قوى للغاية، إلا بالتدخل الدولى على حساب الحقوق المصرية فى مياه النيل. لقد كان نظام الرئيس السابق حسنى مبارك هزيلا، وحين سقط النظام عادت مصر أكثر صلابة فى مواجهة إسرائيل، وقد شن رئيس المخابرات المصرية اللواء مراد موافى هجوما شديدا على إسرائيل أثناء توليه منصب محافظ شمال سيناء عقب الثورة المصرية 2011، واتهم اللواء موافى إسرائيل بلعب دور قذر مع دول حوض النيل، وقال إن جهاز المخابرات الإسرائيلى «الموساد» خطط لإنشاء أنابيب لنقل المياه من إثيوبيا إلى إسرائيل، وعلى خلاف تصريحات الساسة المصريين فى عهد مبارك قال اللواء موافى مهددا: «إن مصر تعى تماما خطط إسرائيل القذرة، ولكنه ليس بمقدور أحد أن يضر ببلادنا». وبدروهم فإن قادة الجيش المصرى تحدثوا بقوة عن مواجهة أى مخططات تهدد الأمن القومى، وقال قائد القوات الجوية المصرية الفريق رضا حافظ إن الطائرات العسكرية المصرية لا تحتاج إلى إذن للعمل فوق سيناء، وإن الطائرات المصرية تتحرك منذ قيام الثورة فوق كل الأراضى المصرية. والوقع أن الجيش المصرى كان يشعر فى السنوات الأخيرة بأن جولة جديدة من المعارك مع إسرائيل قد تكون وشيكة، واستمر الفكر العسكرى المصرى يضع إسرائيل فى وضع الدولة التى قد نقاتلها قريبا. وحين نفذ الجيش المصرى فى عام 2010 المناورة «بدر» قالت صحيفة إسرائيل اليوم: «إن الجيش المصرى يتدرب على غزو إسرائيل، لأن المناورة بدر تقوم على عبور القوات المصرية لقناة السويس والتوغل فى أراضى العدو والأراضى الوحيدة قرب قناة السويس هى إسرائيل». جاءت ثورة 25 يناير 2011 مفاجأه مذهلة لإسرائيل، ذلك أن عصر حسنى مبارك كان بالنسبة لإسرائيل أقرب إلى العنوان الشهير لريتشارد نيكسون «نصر بلا حرب» وبالنسبة للمصريين الذين تدهورت بلادهم فى عهد مبارك كانوا يرون عقود حكمه الثلاثة «هزيمة بلا حرب». إن جهاز الموساد الذى يحظى بشهرة كبيرة لم يتوقع شيئا، وفوجئت إسرائيل بمثل ما فوجئت الولايات المتحدة والعالم، وأصبحت إسرائيل فى حيرة هى الأكبر منذ حرب اكتوبر عام 1973، ما الذى يجرى فى مصر؟ وما الذى سيجرى مع إسرائيل؟ كان الحقد الإسرائيلى على النجاح الكبير للثورة المصرية وللمكانة العالمية التى حظيت بها كبيرا وعميقا، وراح المحللون الإسرائيليون يحاولون إطفاء الأنوار. «بينى موريس» واحد من أبرز الذين عبروا عن الحقد الإسرائيلى على الثورة المصرية، كتب «بينى موريس» فى المجلة الشهرية الأمريكية «إنترنشونال إنترست» مقالا بعنوان «ماذا يريد المصريون؟» قال بينى موريس: «إن كبرى شبكات الأخبار الأمريكية والأوروبية أجمعت على أن الديمقراطية هى دافع المصريين للثورة، ثم استنتاج أن كل هذه الجموع من المتظاهرين المصريين يريدون نظام حكم ديمقراطى ودولة مدنية، ثم الاعتقاد بأن تلك الديمقراطية هى التى حركت الناس فى شوارع القاهرة والإسكندرية بكل الشرائح والمستويات»، ثم يمضى بينى موريس للقول: « للأسف.. كان هذا خداعا بصريا، لقد كان الهدف الخبز فقط، لقد حرصت شبكتان CNN وBBC على إجراء حوارات مع النخب القادرة على التحدث بالإنجليزية وتلقت تعليما أجنبيا، ما أخشاه أن ينبهر الغرب بهذه النبرة الواعية عن الديمقراطية وأن يتناسى وسط ذلك كله عبارات «الله أكبر» «تسقط أمريكا» «الموت لإسرائيل». لم يكن بينى موريس محظوظا فى هذه الكراهية، إذ سرعان ما اندلعت المظاهرات فى إسرائيل، وتزاحم أكثر من ربع مليون إسرائيلى فى أكبر مظاهرات تشهدها الدولة العبرية منذ تأسيسها، لم يكن الهدف من المظاهرات فساد النخبة الحاكمة ولا تدهور صورة إسرائيل فى الخارج، بل كان خروج مئات الآلاف من الإسرائيليين من أجل أهداف معيشية محدودة.. السكن والعمل! أصبحت مصر مصدر إلهام كبير للإ سرائيليين، تعلّم الإسرائيليون من المصريين الجرأة والجسارة فى مواجهة فساد النخبة الحاكمة، وخرجت مظاهرات إسرائيل تحمل شعارات ميدان التحرير، وإزاء السقف الشاهق للثورة المصرية راح الإسرائيليون يقلدون شباب التحرير فى المطالبة بإسقاط النظام فى إسرائيل. كان الإسرائيليون يخرجون فى السابق فى قضايا محدودة، وقد تعلموا من ثورة المصريين أن هناك أسبابا أخرى لأن يقول الشعب «لا». لم يترك الشباب المصرى مظاهرات إسرائيل تمر دون استخدام سلاح السخرية القوى الذى ساهم فى إسقاط نظام مبارك، وخرجت تعليقات الشباب على صفحات «فيس بوك» تطلق النكات على ما يجرى فى تل أبيب.. وكان من أبرز كتابات الشباب: «ما تعبناش ما تعبناش.. المجازر مش ببلاش».. «نزّل راسك تحت.. إنت إسرائيلى».. «الحاخام أبو إسخاء: التظاهر محرم بنص التوراة.. وبدعة مصرية منهى عن اتباعها».. «ضبط أجندات مصرية فى مظاهرات تل أبيب».. «الموساد: هناك شباب إسرائيلى تم تدريبهم فى روض الفرج من أجل إشاعة الفوضى فى إسرائيل».. «المتظاهرون الإسرائيليون حصلوا على علبة كشرى وخمسين جنيه مصرى».. «مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية يقول: نتنياهو هو أول من أيد الثورة». على الجانب الآخر كان الفلسطينيون يفكرون فى بدء الانتفاضة الثالثة.. رأوا أن ذلك يتوافق مع موجة الربيع العربى، بل إنه يتوافق مع الغضب الإسرائيلى ضد النظام الإسرائيلى، وبدأت صفحات «فيس بوك» الفلسطينية تدعو للانتفاضة الثالثة، لكن القمع الإسرائيلى كان شديدا، كما أن انقسام السلطة الفلسطينية بين «دولة فتح» و«دولة حماس» حال دون التوافق العام على الانتفاضة. استعدت إسرائيل بقوة لاحتمالات الربيع الفلسطينى، واستخدمت كل آليات القمع والتضييق، وكانت لغة التهديد قائمة فى دائرة القرار السياسى ودائرة الفكر السياسى معا. أحد المؤرخين الجدد فى إسرائيل وهو «توم سيجيف» تحدث إلى مجلة «دير شبيجل» الألمانية مهددا: «لقد جرب الفلسطينيون الانتفاضة، وإذا قاموا بذلك مرة ثالثة فسوف يخسرون، الإدارة الإسرائيلية لن تسمح بذلك، ثم إن القادرين فعليا على القيام بانتفاضة جميعهم فى السجون الإسرائيلية». إن المفاجأة فى تحليل «توم سيجيف» الذى يعارض أى انتفاضة فلسطينية هى دعوته للثورة فى المملكة الأردرنية! يقول سيجيف: «إذا انقلب نظام الحكم فى الأردن فسيكون ذلك فرصة مثالية لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى برمته، فى هذه الحالة يمكن أن تكون الأردن والضفة دولة واحدة، فالأغلبية فى الأردن من الفلسطينيين، وهناك متسع من الأرض وترحيب من الناس.. إن الثورة الأردنية هى الثورة المثالية التى يجب أن تقوم»! يمثل «سيجيف» تلك النزعة الاستعلائية لإسرائيل.. إن حل القضية الفلسطينية برأيه شطب الدولة الأردنية وتعليق لافتة فلسطين فوق العاصمة عمّان.. إنها نفس آلية الشطب الجغرافية التى اعتمدها المشروع الصهيونى حين شطب دولة فلسطين ووضع فوق أراضيها لافتة «دولة إسرائيل» لكن الحالة النفسية لدى إسرائيل تزداد تدهورا، فالنزعة الاستعلائية أصبحت تنال الجميع، إنها تصل إلى الولايات المتحدة وأوروبا. هجوم يهودى على المسيحية أصبح ذلك الانفلات يتخطى الهجوم التاريخى على الإسلام والمسلمين إلى هجوم حديث على المسيحية والعالم المسيحى.. أصبحت إسرائيل تهاجم الغرب فى الدين والسياسة. خرج المذيع الإسرائيلى «ليؤورشلاين» فى برنامج «الليلة» على القناة العاشرة فى التليفزيون الإسرائيلى ليقول: «لا تصدقوا الكنيسة.. إن المسيحيين يعتقدون أن السيدة مريم عذراء، وهذا خاطئ وكاذب، السيدة مريم ليست طاهرة ولا شريفة ولا عذراء»! وهو ما دعا مجلس كنائس الشرق الأوسط لتوجيه انتقادات شديدة لإسرائيل التى طعنت فى شرف السيدة مريم «أم المسيح». وربما كان ذلك من الأسباب التى دعت بابا الفاتيكان للقيام بأول زيارة فى تاريخ البابوية إلى المسجد الأقصى، وهى الزيارة التى خلع فيها البابا الحذاء للمرة الأولى عملا بالأعراف الإسلامية، ودخل المسجد وخرج مؤيدا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لكن المفاجأة الأكبر فى زيارة البابا إلى فلسطين وإسرائيل هى قيامه بأداء «صلاة جديدة» دعا فيها البابا أن يدخل اليهود فى الدين المسيحى، وتتضمن الصلاة دعوة صريحة لأن يترك اليهود اليهودية من أجل اتباع الديانة المسيحية. وهى الصلاة التى جرت على البابا هجوما غير مسبوق من رجال الدين اليهود.. أما «عودين بن حورون» سفير إسرائيل فى روما فقد قال ناقما: «إن هناك تغيرا فى مواقف البابا تجاه اليهود، وما يجرى حاليا يعد تراجعا فى العلاقات بين اليهودية والمسيحية». ربما لا يلحظ الكثيرون ذلك الصراع الخفى بين المسيحية واليهودية على أثر قوة الصراع بين الإسلام واليهودية،لكن الكثير من معالم الحرب الباردة بين اليهودية والمسيحية لا تنقطع، وبينما تحاول المسيحية جذب اليهودية للاعتناق أو الاندماج والذوبان، فإن اليهودية تحاول دفع المسيحية إلى منطقة وسطى بين المسيحية واليهودية، أو أن تصبح المسيحية أقل مسيحية وأكثر يهودية، وضمن آليات عديدة لهذا الغرض يتبدى مذهب «الكابالا» للقيام بدور. والكابالا هو مذهب يهودى صوفى يقوم على مقولات روحانية وأفكار صوفية هائمة، جانب من المذهب يقوم على ادعاءات السمو الروحانى والتحليق خارج الماديات ومقاومة ضغوط العصر بالتجرد منه وخلق حالة ذاتية من الصفاء والنقاء، وهو فى جانب آخر منه يذهب إلى مواقع خرافية من التفكير.. مثل الاعتماد على التعاويذ والأحجبة والمقتنيات الشخصية من أجل طرد الجن ومقاومة الشياطين! إن مثل هذه الأفكار تجد هوى لدى الشخصيات الأكثر ثراء وشهرة ونفوذا ممن يعيشون فى حالات ممتدة من القلق والمنافسة، وهكذا نجح مذهب الكابالا اليهودى فى جذب بعض أفراد تلك الطبقة المترفة بدعوى الصفاء الذهنى ويقظة الروح. كتبت المطربة الشهيرة «مادونا» مقالا فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية تصف فيه يقظتها الروحية حين اكتشفت مذهب الكابالا.. تقول: «لقد جعلنى ذلك أرى قطع اللغز كاملة».. «قبل سنوات كنت نجمة كبيرة.. لكننى أحسست أن شيئا ينقصنى.. إنه الفراغ الروحى.. أرشدنى معلّمى اليهودى إلى مذهب الكابالا.. إن الشهرة والنجاح لا يكفيان.. هناك فراغ روحى.. والكابالا تملأ ذلك»! قامت «مادونا» باتخاذ اسم يهودى لها هو «إستير»، وأدت مناسك الحج اليهودى فى إسرائيل! هنا يجىء دور السياسة.. استقبل الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز المطربة مادونا.. قال لها: لولا الصهيونية لما كنت هنا.. ولما عادت إليك الروح.. وأعطاها كتابا عن الصهيونية! إن «ديمى مور» و«بريتنى سبيرز» وآخرين هم من أعضاء مذهب الكابالا.. حيث الشكل المسيحى والمضمون اليهودى، أو حيث المسيحية أكثر يهودية، أو حيث المسيحية فى خدمة إسرائيل. إن نماذج الانفلات الإسرائيلى تمتد من عدم الاعتراف بدولة فلسطينية إلى المطالبة بإسقاط الأردن، إلى تصعيد مستوى العداء مع مصر، إلى الاستعلاء على الحليف التركى، إلى نقد الولايات المتحدة وأوروبا من أجل تسريع الخطى فى الحرب على إيران، ثم إلى التحدى الدينى للإسلام والمسيحية معا.. يكمن وراء ذلك الانفلات إحساس إسرائيلى بالقوة المفرطة، وعدم الحاجة إلى إخفاء تلك القوة أو التقليل من هذه القدرة، ولقد تبدى ذلك الإحساس المتضخم بالقوة فى الإعلان الإسرائيلى عن القدرات النووية العسكرية على نحو غير مسبوق. كانت إسرائيل فى السابق تلجأ فى إعلان قوتها النووية إلى التلميح، ولكنها تجاوزت ذلك مؤخرا إلى التصريح، حيث تحدث إيهود أولمرت عن السلاح النووى الإسرائيلى، وفى إجراء أمريكى نادر اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية إسرائيل قوة نووية، وقالت الصحف إن الجيش الأمريكى صنف إسرائيل باعتبارها قوة نووية عظمى مع روسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، وهى بذلك تسبق مجموعة الدول التى صنفها الجيش الأمريكى بأنها «دول تقف على العتبة النووية» وتشمل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.. وتسبق دول «العتبة النووية بدورها» ما أسماه الجيش الأمريكى «الدول الناشئة نوويا» مثل إيران. يجىء الاعتراف الإسرائيلى بعد تصريحات سابقة لمسؤولين أمريكيين عن السلاح النووى الإسرائيلى.. فقد سبق للرئيس جيمى كارتر أن تحدث عن امتلاك إسرائيل مائة وخمسين قنبلة نووية، كما تحدث وزير الدفاع الأمريكى «روبرت جيتس» عن أسباب السعى الإيرانى لإنتاج قنبلة نووية بأن إيران ترى نفسها محاصرة بين قوى نووية.. روسيا فى الشمال وباكستان فى الشرق وإسرائيل فى الغرب. إن البحث العميق فى أسباب الانفلات الإسرائيلى لا يفسره فقط الشعور المفرط بالقوة، وإنما يفسره أيضا الشعور المفرط بالضعف. ذلك أن إسرائيل القوية تخفى خلفها إسرائيل الضعيفة، وتماسك الجيش يخفى وراءه انهيار الدولة. وقد عبر الكاتب الإسرائيلى «ألوف بن» عن ذلك الانهيار فى مقالة نشرتها صحيفة الجارديان تحدث فيها عن أن نصف التلاميذ فى الصف الأول الابتدائى إما أنهم عرب غير يهود أو أنهم يهود أصوليون لا مستقبل لهم. فاليهود الأصوليون لا يؤدون الخدمة العسكرية ولا يعملون فى المصانع والشركات والخدمات.. وإنما يتفرغون للعبادة وتلاوة التوراة.. وهو ما يعنى أن نصف إسرائيل لن يكون مفيدا للجيش ولا مفيدا للتنمية. بتعبير «ألوف بن» فإن نصف إسرائيل سيعيش عبئا على النصف الآخر، أو بتعبير أكثر وضوحا لخبير اقتصادى إسرائيلى: «إننا نحمل فيلا فوق ظهورنا.. وقد يدفنا تحته»، ويقول رئيس الأركان الإسرائيلى الجنرال جابى أشكينازى: «بعد عشرين سنة لن نستدعى إلى الخدمة العسكرية إلا عددا قليلا»! كانت إسرائيل تعتمد فى السابق على موجات الهجرة اليهودية التى تغذيها، إما «ناجون من الهولوكست» أو «يهود سفارديم من العالم الغربى والإسلامى» أو «اليهود السوفييت» أو «اليهود الإثيوبيون»! ولكن بحيرة المهاجرين قد أصابها الجفاف، بل إن إسرائيل تشهد هجرة مضادة من إسرائيل إلى العالم بعد أن كانت الهجرات السابقة من العالم إلى إسرائيل، يتوازى مع الانقسام الدينى وضعف المستقبل للدولة العبرية، انكسار الحاضر من جراء الفساد غير المسبوق لدى رجال السياسة. ثمة مشهد مثير فى شأن الفساد والفاسدين فى إسرائيل، كان رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إريل شارون ممددا على سريره فى المستشفى، فى غيبوبة طويلة دخلها منذ مطلع العام 2006، كان المدهش فى مرض شارون هو ما يفعله ابنه «جلعاد شارون»، حيث كان يستغل زوار والده لترتيب المصالح وعقد الصفقات. وحين أرادت السلطات نقل شارون إلى منزله بعد خمس سنوات كاملة قضاها فى المستشفى، قاوم شارون الابن طويلا لمنع والده من العودة إلى المنزل، حتى لا يفقد الصلات وتتراجع الصفقات! إن إدارة نتنياهو تتهم عائلة شارون بالفساد وعائلة شارون تتهم نتنياهو بالفساد، وقد ألف جلعاد شارون كتابا عن والده بعنوان «شارون سيرة حياة» نشره فى صحيفة «يديعوت أحرونوت» يقوم الكتاب فى معظم فصوله على إثبات فساد النخبة الحاكمة فى إسرائيل. يقول المؤرخ المعاصر «توم سيجيف» فى حسرة: «إذا كنت شابا إسرائيليا فسوف تجد رئيس الدولة «موشيه كاتساف» يحاكم فى قضية تحرش جنسى، ورئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت يحاكم فى قضية فساد، وعددا من أعضاء الكنيست موجودين فى السجن بتهم متعددة، من الطبيعى إذن أن تفقد الأجيال الجديدة الثقة فى الإدارة السياسية لإسرائيل، وأن تنهار المبادئ الديمقراطية لديهم». عاد التاريخ ليعتدل من جديد.. شروق فى مصر وغروب فى إسرائيل، خريف الفساد فى القاهرة وربيع الفساد فى تل أبيب. جاءت ثورة 25 يناير 2011 المجيدة لتنهى حقبة كاملة مثلها عصر حسنى مبارك «هزيمة بلا حرب»، ولتفتح الباب أمام حقبة جديدة مشروعها «نصر بلا حرب». حين صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب «مابعد إسرائيل» كان الأفق مسدودا والأمل محدودا.. لم تكن مصر تستطيع، ذلك أن المشروع السياسى لحسنى مبارك كان «صناعة اليأس». سقط حسنى مبارك وسقط معه مشروع «مصر الصغرى»، وأصبح بمقدورنا أن نهتف واثقين: الآن نستطيع. إسرائيل والعالم.. بعض التحولات ربما يكون تعبير الكاتب البريطانى «روبرت فيسك» هو الأدق فى علاقة الغرب بإسرائيل.. يقول فيسك فى جملة واضحة: «إن قادة الغرب جبناء». إن «فيسك» ليس وحده فى عدم تقدير «قادة الغرب المعاصرين»، ذلك أن النخبة الفكرية فى العالم ترى أفول زمن «القادة العظام» وحلول زمن «القادة الصغار»، لكن «فيسك» كان أكثر وضوحا فى وصف حالة الجبن المتزايدة لقادة الغرب «الصغار» فى مواجهة إسرائيل، إن هذا الجبن تجلى فى التخاذل الغربى إزاء الفلسطينيين فى حرب غزة عام 2008، لم يساعد الغرب فى إنقاذ روح واحدة وكل ما ساعد فيه هو إصدار بيانات الأسف! ويقارن «فيسك» بين ما جرى فى عام 2008 فى فلسطين التى هى ليست عدوا للولايات المتحدة وبريطانيا وما جرى قبل نصف قرن فى عام 1948، كانت القوات الروسية تحاصر برلين وكان الألمان الذين هم أعداء الولايات المتحدة وبريطانيا يعانون ويلات الحصار.. قامت واشنطن ولندن بعمل إنسانى كبير، حيث أقامت جسرا جويا إلى برلين من أجل إنقاذ الألمان الأعداء! ولكن حين حدث ذلك الحصار كان الغرب جبانا فى مواجهة إسرائيل، وأدار رأسه بعيدا! إن قادة الغرب الذين ساعدوا فى هذه المذبحة الإنسانية هم أنفسهم الذين يتسابقون من أجل نفاق إسرائيل فى كل المناسبات، وحدث فى إسبانيا أن قام رئيس وزرائها «خوسيه ماريا أزنار» بقيادة مظاهرة من عشرات الآلاف تضامنا مع إسرائيل ضد المحرقة. إن العالم العربى والإسلامى يرى المحرقة أمرا مشينا وجريمة كارثية ارتكبها الغرب ضد المواطنين اليهود الأبرياء، ولكن الجريمة كانت بحق اليهود وليست بحق إسرائيل، وليس مفهوما أبدا لماذا يتظاهر البعض فى الغرب ضد المحرقة تضامنا مع إسرائيل، وكأن إدانة المحرقة تتطلب بالضرورة تأييدا إسرائيل. هنا يكمن المأزق الأخلاقى للغرب فى قضية المحرقة.. إنهم يأسفون على وقوعها، وحين قام الرئيس الفرنسى ساركوزى بزيارة نصب تذكارى للمحرقة قال: «أشعر أننى إسرائيلى.. إن بقاء إسرائيل كدولة يهودية واجب أخلاقى». قرر ساركوزى تدريس المحرقة للأطفال فى فرنسا، حيث يجب على كل طفل فرنسى فى الصف الخامس الابتدائى أن يتذكر طفلا يهوديا قتل أثناء الإبادة.. أن يعرف اسمه ومكان قتله. اعترض علماء النفس على قرار ساركوزى الذى سيشعر الطفل بالذنب إزاء طفل لا يتحمل أدنى مسؤولية فيما جرى له. وقال المعترضون: «كيف سيكون شعور أسرة مسلمة أو مسيحية حين تطلب المدرسة من ابنها تذكر طفل يهودى فى ذكراه.. إن ذلك قد يحدث آثارا عكسية». وسخر الفيلسوف الفرنسى «باسكان براكنر» قائلا: «إن ساركوزى يلقى علينا كل يوم بفكرة سيئة»، ثم واصل: «إنه عبء ثقيل أن نطلب من طفل صغير أن يصف طفلا ميتا». قام ساركوزى بزيارة إسرائيل وامتلأ خطابه فى الكنيست بمقتطفات من التوراة، وقال: «جدى كان يهوديا وعانينا كارثة المحرقة».. ثم استدرك يقول: «إننى لست يهوديا، لكن جدى هو الذى كان يهوديا»، لكن ساركوزى ارتدى الطاقية اليهودية، ومضى يتحدث عن معاناة اليهود دون كلمة واحدة عن معاناة الفلسطينيين. إنه الأسى على محرقة قديمة بدعم محرقة جديدة! لقد كان الزعيم الكوبى فيدل كاسترو جسورا حين وصف إسرائيل بأنها مثل ألمانيا النازية، قال كاسترو: «إن الصليب المعقوف أصبح علم إسرائيل.. وأن إسرائيل لن تتردد فى إرسال مليون ونصف المليون رجل وامرأة وطفل فى غزة إلى أفران الغاز كما فعل هتلر مع ملايين اليهود فى ألمانيا النازية»، ثم أوضح كاسترو: «إننى لا أكره اليهود.. وقد تضامنت بلادى معهم فى الحرب العالمية الثانية، واستضافت كوبا عددا من الناجين اليهود.. لكننى أرى بالمقابل أن ما يجرى فى فلسطين يماثل ما جرى لليهود.. إنها إبادة.. وللأسف فإن العالم سينشغل بمونديال 2008 عن محرقة 2008». وقد جاء مقال الكاتب «ديفيد أرانوفيتش» فى صحيفة التايمز مماثلا لرؤية كاسترو.. أجمل «أرانوفيتش» كارثة 2008 فى فلسطين بقوله: «إنها آلام تفوق طاقة البشر.. مقتل «1000» وإصابة «5000» وتشريد «12000» من الفلسطينين الأبرياء.. إنه إرهاب لا يحتمل، إن بعض الفلسطينيين يلقون أنفسهم من النوافذ.. ما ينقص إسرائيل فقط أفران الغاز من أجل حرق الفلسطينيين»، ثم انتهى «أرانوفيتش» للقول: «إن مجازر إسرائيل ضد فلسطين تعادل مجازر النازى ضد اليهود» . لقد توازى ذلك مع حملة أطلقها اتحاد النقابات العمالية فى بريطانيا لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية.. جاءت الحملة تحت عنوان «لماذا نشترى بضائع مسروقة.. إنها قادمة من المستوطنات وهى أرض مسروقة». وقد اندلعت مظاهرات فى لندن وبرلين واستكهولم وبودابست وأوسلو وكوبنهاجن وأثينا، وفى مدينة نيس أحرق الشباب الفرنسى محلات تشير إلى أمريكا وإسرائيل، وحين قام «إيهود أولمرت» رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق بزيارة جامعة شيكاغو من أجل إلقاء محاضرة استقبله طلاب الجامعة بالأحذية.. وكتب أحد الطلاب: «على جامعتى أن تخجل من دعوة مجرم حرب».. وحين تحدث مسؤول الجامعة مهدئا الطلاب ومبررا الدعوة بأنها من أجل أن يجيب أولمرت عن أسئلة طلاب جامعة شيكاغو قال الطلاب: «عليه أن يجيب عن الأسئلة، لكن ليس فى هذه القاعة، بل فى محكمة العدل الدولية فى لاهاى».