الكل يكتب ويتحدث عن القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة أمس الإثنين، وما تبعها من إجراءات في سعر صرف الجنيه المصري، مقابل العملات الأجنبية، حتى تحول الفضاء الأزرق إلى ساحة يتنافس فيها المحللون والخبراء عن الأسباب والتداعيات، وآليات مواجهة التضخم، والحرب الروسية الأوكرانية، والزيادات المتوقعة في أسعار السيارات والعقارات والسلع المعمرة، دون التطرق إلى الأسباب الحقيقية والمشكلات الجذرية التي تجعلنا دائماً في مهب الريح، نتأثر بكل أزمة عالمية أكثر من أصحابها أنفسهم. ما يقرب من 10 مليارات دولار من - الأموال الساخنة – وهي الأموال المستثمرة من الأجانب بالعملة الصعبة في البورصة، وأذون وسندات الخزانة وأدوات الدين، خرجت من الأسواق المصرية خلال الفترة الماضية، نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة عالمياً، ورغبة المستثمر الأجنبي في دعم اقتصاد بلاده في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها العالم، وسط تداعيات كورونا وتأثيراتها المباشرة على معدلات النمو. في الوقت الذي يدعم المستثمر الأجنبي أسوق بلاده بكل قوة، تظهر نصائح المصريين عبر السوشيال ميديا والفضاء الإلكتروني وحكاوى الميكروباص والمقاهي لتخبر الناس: "لا تبيعوا الدولار، سوف يصل سعره إلى 30 جنيه خلال أيام، واشتروا الذهب سيصبح الجرام ب 1500 جنيه في أقرب وقت ممكن"، وللأسف هذا ما يقودنا إلى نتائج كارثية وأزمات لا حصر لها، فنحن أشبه بمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، نُضيع كل ما تقدم من إصلاح وجهد بسبب مواطن فكًر لنفسه فقط، وظن أن الفهلوة والحداقة طريقاً للتحوط! في ظل جائحة عالمية يتضامن فيه الجميع لتوفير السلع والأساسية ومواجهة التضخم، يفكر بعض المواطنين في أمرين لا ثالث لهما، الأول تخزين السلع حتى يضمنوا وجودها بصورة كافية لأطول وقت ممكن، والثاني يرتبط بالتاجر، الذى يحتكر أكبر كمية ممكنة من السلع انتظاراً لارتفاع أسعارها، وهذا للأسف لا يحدث إلا في مصر، ودافعه الجشع الشخصي والرغبة في تحقيق مكاسب خيالية، وهنا الكلمة مقصودة، فالتاجر لا يرغب في مكسب مرتفع أو متوسط، بل خيالي من عينة 200 و300%، دون أن يدرك تبعات ومخاطر هذا على المجتمع، والآثار السلبية المتوقعة على معدلات التضخم وقيمة العملة. التضخم في أوروبا وأمريكا سجل معدلات لم يشهدها منذ 40 عاماً، إلا أن وعى المواطن الغربي وحرصه على سلامة الأسواق، جعل الأسعار تدور في أرقام ونسب منطقية ومقبولة، في حدود 3 و5 و10%، بمعنى لو أن سلعة ثمنها 100 دولار وتعرضت لأقصى معدل زيادة سيصبح ثمنها 110 دولار، وإذا تراجعت معدلات التضخم واستقرت الأمور ستعود سريعاً إلى ما كانت عليه، لكن في مصر للأسف لا يوجد سلعة تخضع لقانون العرض والطلب سوى المجنونة "الطماطم"، التي تتحرك صعوداً وهبوطاً ارتباطاً بالوفرة ومعدلات الاستهلاك ومواسم وتوقيتات الزراعة. الجشع أخطر من التعويم والدولار والجنيه والتضخم وكل ما نتكلم عنه من حلول ووسائل كلاسيكية لضبط الأسواق، فنتائجه كارثية، خاصة إذا ارتبط بارتفاع معدلات الفقر، وتراجع جودة التعليم، وزيادة نسب الأمية، وانخفاض الوعي، وعدم قبول فكرة المكسب والخسارة، فالتاجر المصري لا يعرف طريق الخسارة، بل يحمل خسائره دائماً على المستهلك، وهذا ليس إلا أبشع صور الجشع. لو حاولت السؤال عن النسبة الجائزة للربح في التجارة، للأسف لن تجد إجابة، فقد أخبرت دار الإفتاء المصرية أن الشرع لم يحدد نسبة معينة للمكسب!! وهذا كلام أراه غير مقنع، ويجب التصدي له، والاجتهاد معه، حتى ولو من باب التكافل وإشاعة الرضا بين الناس، لماذا لا تجتهد دار الإفتاء المصرية وتصدر فتوى عن حدود الربح الحلال، بدلا من الذين يستغلون هذه الفكرة في وضع مكاسب وإضافة أعباء على الناس تحت ستار خاطئ وهو أن الدين لم يضع سقفاً للمكاسب، أنتم تجتهدون في إصدار الفتاوى عن العملات الرقمية، والألعاب الإلكترونية وتضنون بفتوى ونصائح عن حدود الربح المقبولة، تعود بنتائج إيجابية على المجتمع وتدعم أصحاب الحاجة، وتدفع البلاد نحو الاستقرار والتنمية!