شهدت ميادين مصر خلال اليومين الماضيين نفس الأجواء التى عاشتها خلال شهرى يناير وفبراير الماضيين، واللذان شهدا ثورة غضب عارمة انتهت بالإطاحة بنظام الرئيس السابق حسنى مبارك الذى حكم البلاد لمدة 3 عقود من الزمان. فمن ميدان التحرير بالقاهرة إلى الأربعين بالسويس، مرورا بساحة مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية وغيرها من ميادين الجمهورية، تصاعدت السنة دخان القنابل المسيلة للدموع واشتعلت نيران الغضب وانطلقت أصوات طلقات الرصاص وسقط شهداء وأصيب جرحى تجاوز عددهم الآلاف حتى كتابة هذه السطور. ورغم خطورة الأحداث إلا أنها مرشحة للتصعيد، خاصة مع المواقف المتباينة بين القوى السياسية والفصائل والتيارات الدينية من ناحية والحكومة من ناحية أخرى، وإصرار كافة الأطراف على هزيمة الآخر، والكل لا يدرى أن الخاسر الأول فيها هو مصر، التى تحاول الاتجاه نحو نظام ديمقراطى جديد. أسباب الأحداث اختلفت، ولكن نتيجتها واحدة وهى السير بمصر نحو المصير المجهول، خاصة وأنها مقبلة على إجراءات تسليم الحكم إلى سلطة مدنية ورئيس منتخب، والتى تبدأ أولى خطواتها بالانتخابات البرلمانية المقرر إجراء مرحلتها الأولى الاثنين القادم. السبب وحسبما أعلنت التيارات الدينية وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفى هو رفض وثيقة السلمى التى قالت عنها تلك التيارات أنها تمنح السلطات المطلقة للقوات المسلحة، وتفتح الباب للدولة المدنية وتقضى على الإرادة الشعبية التى أعلنها استفتاء مارس الماضى. ولهذا السبب صرحت قيادات بالجماعة والتيارات السلفية استعدادها لتقديم شهداء جدد اعتراضا على الحكومة عامة ووثيقة السلمى خاصة، وكان لتلك التصريحات أثرها فى الحشد المليونى الذى دعت اليه جماعة الإخوان يوم الجمعة الماضى، والذى انتهى إلى ما انتهت إليه الأحداث الجارية، وهى سقوط شهداء وقتلى وجرحى. على أن التظاهرات التى عمت الميادين المختلفة وما تبعها من اشتباكات دموية بين المتظاهرين وقوات الشرطة رفعت شعارات أخرى، تطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم السلطة فى جدول زمنى محدد، ولم تعد وثيقة السلمى هى السبب، وتحول الأمر إلى هجوم على المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تنظر إليه التيارات الدينية على أنه سبب المشاكل، وأنه يسير ضد الإرادة الشعبية، فى حين أن تلك التيارات هى التى دخلت فى حوارات مع المجلس العسكرى، وهرولت إليها ليس فقط خلال الفترة الأخيرة، ولكن قبل سقوط نظام مبارك حينما دعا نائبه آنذاك عمر سليمان جماعة الإخوان للحوار، وتمنعت ورفعت شعارا أنه لا تفاوض إلا بعد رحيل مبارك، ثم تراجعت عنه وجلست مع سليمان ثم عادت مرة أخرى واعترضت لعدم سير الحوار على هواها. الأحداث التى يشهدها ميدان التحرير، تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن هناك رغبة حقيقية من جانب التيارات الدينية للقفز على السلطة وبأسرع الطرق، رافضة أى محاولات للحوار البناء الذى يهدف إلى إحداث توافق مجتمعى على كيفية الانتقال الآمن إلى مرحلة الديمقراطية التى تنشدها البلاد. الأزمة إذن ليست نتيجة للخلاف على وثيقة السلمى، وإنما فى رغبة التيارات الدينية التى دعت إلى مليونية المطلب الوحيد فى تحقيق أهدافها بعيدا عن أهداف القوى السياسية الأخرى معتمدة على قدرتها فى الحشد والتعبئة وإشعال الموقف وسرعة الانسحاب منه، وكأنها ليست المسئولة عن افتعاله.