كان يوم الأربعاء أصعب يوم فى حياتى لا يختلف أبدا فى صعوبته عن يوم التنحى فى الحادى عشر من فبراير يوم أن تركت الحكم.. النظرات الشامتة واللائمة تحيطنى وتفتك بى من خلف قضبان القفص وأنا أدّعى الثبات واللامبالاة مع أن داخلى كان يرتجف.. كنت فى أوج قوتى وسيطرتى على الحكم والبلد.. فلا أحد يقدر على أن يكون فى الصورة إلا بأمرى ولا يصل للثراء أو المنصب إلا برضائى.. ومن عارض بفجاجة كان السجن هو المكان الملائم والأنسب ولا أستثنى أحدا.. فالمنصب يتطلب أن أحكم بلا قلب حتى لايضيع فأضيع.. أما الناس فكنت أجود عليهم بالقليل فى كل شىء حتى لا يشبعوا لأنهم لو شبعوا سيلتهمونى نظرية احترمها من قديم.. إلى أن مات حفيدى فأحسست لأول مره كم أنا ضعيفا وعاجزا.. لكنى لم أكن ذكيا لأفهم أن تلك هى علامة وضعها الله أمامى كعبرة من أن لا قوة إلا به.. لا كما أدرك وأحكم.. لكن عزاء الناس الطيبين البسطاء من جانب ومؤازرة بطانتى من جانب آخر جاءنى شيئا فشيئا من حزنى أحاطتنى دائرة صغيرة مخلصة ابنى وزوجتى ورجالى المعدودين فكنت استمع لهم وأوافق على ما يذهبون إليه.. باختصار كانوا يفكرون لى.. إلى أن تعبت فذهبت إلى ألمانيا لأستسلم ليد الجراحين المهرة.. ونجوت من الموت ورجعت لقضاء وقت النقاهة فالحياة لابد أن نعيشها بفرح ونأخذها بقوة نعم القوة.. وهنت لكن من حولى أقوياء ارتكز عليهم ضامنا ولاءهم لى.. إلى أن قامت ثوره تونس فضحكت من هروب بن على وفراره.. لكن أصداء الثورة ارتدت إلى هنا فسألت وزير داخليتى فطمأنى على أن الوضع هنا تحت السيطرة.. ووثقت.. إلى أن قام الشباب بالثورة فارتبكت بشدة.. لأول مرة أرتبك.. وكان لى حق فى ارتباكى ففى ساعات قلائل أصبح شعبى ماردا متمردا.. لم يعد يخشى أو يخاف.. مطالب كثيرة يودها وفورا.. حاولت أن أمارس العند والثبات.. لكن لم أفلح.. تطورت الأوضاع إلى أن أمرنى جيشى بالتنحى حتى الجيش الذى كنت أظنه معى !..و.. لم أهرب بل ذهبت إلى شرم لأقضى باقى العمر هناك.. فرق بين أن تكون رئيسا وبين أن تكون مخلوعا أو سابقا حتى فى النظرة للأشياء وفى نظرة الأشياء لك.. أسوار الشرفات الأنيقة لو ارتكزت عليها بيدى أشعر أنها لا تقبلنى.. لاتود يدى.. الغريب أن الشعب لم يروق له كل ذلك يريدنى أمام القضاء لأحاكم.. ضاقت الدنيا بعد اتساع.. جلست أمام المحقق ليحقق معى لم أتحمل.. أدخلونى محبوسا إلى المستشفى.. وأولادى فى السجن.. وتواصلت الاحتجاجات على عدم مثولى أمام المحكمة ليرونى.. لم بعد هناك فرار.. حتى وضعى الصحى أصبح الجميع يتشكك فيه.. وأخبرونى أن لى محاكمة بعد يومين ولابد أن أحضر.. لم يعد يفيد أى عذر ولن تصلح أى حجه ونقلونى لأمثل أمام القاضى...هكذا وفجأة أصبحت لا شىء.. بطانة السوء هى السبب عرفت متأخرا.. كاميرا التليفزيون التى كانت تصورنى فى سكناتى وتحركاتى وأنا أصول وأجول فى البلد والعالم وتجمل وتختار الكادر لأكون فى أحلى المشاهد والصور هاهى تقترب وتتلصص عبر القضبان الحديدية المغزولة لتسجل كل مايصدر منى من حركة حتى لو كنت أضع يدى على أنفى أو فيها.. ما أقساهم.. الصحف التى كانت محجوبة عنى أقرأها الآن وأصمم على قراءتها لأرى الفارق بين أن كنت رئيسا ومخلوعا.. لقد أتى كاتب بمقولة قرأتها بعد أول جلسة لى يقول فيها: إن لكل رؤساء مصر السابقين قولا مأثورا، وقول جمال عبد الناصر المأثور هو: إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.. وقول السادات هو: مستعد أن أذهب إلى آخر العالم الكنيست ذاته.. أما أنا فهو: موجود يافندم !..يارب لاتذلنى أكثر وارحمنى فأنت أرحم الراحمين.