الدولة تتكئ على جهاز الأمن بأكثر مما يحتمل هذا الجهاز، وتسند إلى وزارة الداخلية مهاما، لا يمكن أن تتصدى لها منفردة طوال الوقت، كل شىء هنا فى قبضة الأمن، العمال فى المصانع، والطلاب فى قاعات الدرس، والفلاحون أمام بنوك التنمية الزراعية، والعطشى الذين يقطعون الطريق الدولى بحثا عن قطرة ماء، أنت تسأل نفسك وتسألنى: ما الذى حملنا إلى هذا الواقع؟ خذ مشهدا واحدا فى محاولة للبحث عن إجابة: خرج أعضاء الجماعات الإسلامية بعد مراجعتهم الفكرية، من قسوة السجون إلى قسوة تفاصيل الحياة، ومن عراء الفكر إلى عراء الدولة، التى لا تسمن ولا تغنى من جوع، لم يسأل أى جهاز فى الحكومة نفسه: هل نجح هؤلاء الذين قضوا نصف أعمارهم داخل السجون فى الحصول على وظيفة، أو سكن أو زوجة أو فرصة لمعيشة كريمة، أم أنهم عادوا إلى الدوامة الأولى، التى دفعتهم إلى دائرة الإرهاب من قبل، بالفقر، والقهر، والظلم الاجتماعى، وغياب الحريات، وفوضى القراءات الدينية المبتسرة، وهيمنة الحزب الوطنى الآن وإلى الأبد؟ الدولة بكل أجهزتها السياسية والتنفيذية، تركت الأمن يلعب الدور وحده، الأمن هو الذى واجه العنف فى المدن والقرى والشوارع، والأمن هو الذى أدار المعتقلات المنتفخة بنزلائها، والأمن هو الذى بنى جسور الحوار مع القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية وغيرها من الجماعات، وروج للمراجعات الفكرية، وساعد على تسويق الفكرة داخل السجون، وللرأى العام فى البلاد، ثم فى النهاية، أطلق سراح من تاب عن العنف، ثم، لا شىء آخر، وكأن دور الدولة توقف عن هذه المهام التى نفذتها وزارة الداخلية منفردة، أو كأن وزارة الداخلية هى المسئولة عن لعب الدور الأمنى والسياسى والاقتصادى، فى مواجهة الإرهاب دون أى دور من أى جهاز تنفيذى آخر. ما الدور الذى لعبته وزارة الإعلام مثلا؟ لم يتحرك التليفزيون لرصد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء المفرج عنهم من الجماعة الإسلامية، أو جماعتى الجهاد والتكفير والهجرة، اللتين دخلتا على خط المراجعات مؤخرا، واختفى دور وزارة التضامن الاجتماعى، والصندوق الاجتماعى للتنمية، فى احتواء ومساعدة المفرج عنهم فى الحصول على عمل، أو تقاضى معاش مؤقت، أو تمويل مشروع صغير لكسب الرزق، إنه الخلل، يعود بتركيبته الأولى من جديد، عاد هؤلاء ليكونوا جزءا من نفس المعادلة، التى أفرزت العنف ودفعتهم إلى إعلان الجهاد ضد المجتمع والدولة، لا شىء تغير، العشوائيات والفقر والبطالة والفساد وتزوير الانتخابات، الحال كما هو، والوقود الذى أشعل النار من قبل باق فى الشوارع والأزقة والزوايا، الدولة نامت على ما أنجزه الأمن، ولم تفكر فى أن تمد يد العون لمواطنيها، الذين يحتاجون لإعادة التأهيل فكريا ونفسيا واجتماعيا من جديد. الدولة تتكئ على جهاز الأمن بأكثر مما يحتمل هذا الجهاز، وتسند إلى وزارة الداخلية مهاما، لا يمكن أن تتصدى لها منفردة طوال الوقت، فالإرهاب كان نتيجة لخلل فى السياسة والاقتصاد والفكر، وفى البناء العام للمجتمع، وفى المنظومة العامة للثقافة الدينية، ولا يمكن للأمن أن يحل محل الأزهر الشريف، ووزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم والتضامن والحزب الوطنى. نحن تركنا الأمن يتصدى لدور كل هذه المؤسسات، ثم توقفنا لنسأل أنفسنا فى النهاية بسذاجة مخجلة: لماذا أصبحنا دولة بوليسية؟.